نَعَــــــــــــــمٌ إلى الأبــــــــــــــــــــــــد
في عيد السنة الثمانين للفوكولاري ١٩٤٣ – ٢٠٢٣
كيارا لوبيك (١۹٢٠ – ٢٠٠٨) هي مؤسِّسة حركة الفوكولاري، وأوّل رئيسةٍ لها، وكاتبةٌ غزيرة الإنتاج. نتوقّف في هذا الجزء الأوّل مع بعض المحطّات المهمّة من حياتها للفترة الممتدّة ما بين سنة ١۹٢٠ حتّى سنة ١۹٣٧.
التكرّس، وإسم جديد “كيارا”

تربط الفوكولاري ولادتها بـالــــــــ “نَعَم الدائمة” لله الّتي أعلنتها كيارا لوبيك في ٧ كانون الأول (ديسمبر) ١٩٤٣. ذهب الأب كازيميرو، مدير مدارس الرهبنة الفرنسيسكانيّة الثالثة، ليقدّم حديثًا عن القدّيس فرنسيس، أمام معلّمي دار الأيتام في كوجنولا، فوق مدينة ترينتو، وأذهله ردّ فعل سيلفيا لوبيك: «أبتي، لم أسمع مثل هذه الأمور من قبل. أنا أيضًا أريد نار الحبّ هذه، أريد أن أنقلها إلى العالم”, ويتابع الأب كازيميرو قائلاً: «رجعتُ مرّاتٍ عدّة إلى دار الأيتام للتبشير ورأيتُ حماستها، فأوكلتُ إليها شابّاتٍ أخريات. ولقد حدث ما لا يمكن تصوّره”.
سوف تلتحق سيلفيا بالرهبنة الفرنسيسكانيّة الثالثة وتتّخذ إسم كيارا. لمّا طلبَتْ أن تهبَ نفسها للربّ وتُقدّم “كلَّ شيءٍ لله”، بالإضافة إلى الإلتزام بنذر العفّة، حاول الأب كازيميرو شرح تبعات هذا الالتزام، لكنّ كيارا ظلّت ثابتةً في قرارها. وتمّ التكرّس ٧ كانون الأول (ديسمبر) ١٩٤٣.
“إستيقظتُ صباحًا، حوالي الساعة الخامسة. إرتدَيتُ أفضل ثوبٍ أملِكُه، حتّى لو كان فقيرًا. إنطلقتُ وعَبَرتُ المدينة بأكملها، متّجهةً نحو كليّةٍ صغيرة… هبّت عاصفةٌ هوجاء، إضطررتُ معها إلى دفع مظلّتي للأمام بثبات، كي أشقّ طريقي. بدا لي أنّ العاصفة تعبِّر عن أنّ العمل الذي أقوم به سيواجهُ عقبات. بدا لي أنّ غضب المطر والرياح المعاكسة كانا رمزًا لشخص معادٍ…
زُيّنَت الكنيسة الصغيرة بأفضل شكلٍ ممكن. في الخلف، تمثال السيّدة العذراء الطاهرة. أمام المذبح، وراء الدرابزين، تمّ إعداد راكعٍ بعنايةٍ شديدة.
قبل المناولة، تراءى لي في لحظة، ما أنا مُقْدِمَةٌ عليه: بتكرّسي لله، كنتُ أعبُرُ جسرًا؛ وهذا الجسر انهار خلفي، ولن أتمكّن أبدًا من العودة إلى العالم. نعم، لأنّ تكريسي لم يكن مجرّد صيغةٍ قرأتها أمام القربان المقدّس المرفوع أمامي: “إنني أقطع نذر العفّة الكاملة والدائمة”؛ كان شيئًا آخر! كنت أتزوّج…. لقد تزوّجت الله.”
تعرف كيارا أنّه “في السعي إلى الكمال يمكنك أن تصبح قدّيسًا، ولكن يمكنك أيضًا أن تصبح قدّيسًا إذا عشت الكمال في حالتك الحاضرة، أي من خلال القيام بشكل جيّدٍ بما يطلبه الله منك، حتّى ولو بدا ذلك أقلّ جمالا لك، ما يهمّ هو إرادة الله”.
بعد شهرٍ واحدٍ أي في ٢٤ كانون الثاني/يناير ١٩٤٤، طرح الأب كازيميرو سؤالاً على كيارا حول الألم الأكبر الذي تعرّض له يسوع، وأوضح لها أنّ ذلك حدث عندما صرخ “يسوع من على الصليب “إلهي، إلهي لماذا تركتنى؟”. كان هذا لكيارا “وَحْيًا ودعوة”.
إرتبط نذر كيارا بوعدٍ آخر وهو عدم مغادرتها مدينة تْرَنتو. كان القصف قد دمّر منزل العائلة، فاضطرّت عائلة لوبيك إلى الرحيل، لكنّ كيارا لم تكن تستطيع الرحيل معهم. لذا فإنّ المنزل المؤقّت الذي وجدته مع رفيقاتها الأخريات سيكون بمثابة “الموقِد أو البيت” الأوّل لهنَّ، وهو كناية عن منزلٍ صغير في ترنتو.
ونحن قد آمنّا بالمحبّة
نحن في عام ١٩٤٢. تقول كيارا: “كنت لا أزال معلّمةً في المدرسة. وصل أحد الكهنة، ربّما كان يعرف إلتزامي الدينيّ، قرع باب الفصل، وطلب أن يكلّمني. سألني أن أقدّم ساعةً من يومي على نيّته. وأنا التي، أكنّ احترامًا كبيرًا للكهنة، أجبته على الفور: “لا بل اليوم كلّه”! صدمه هذا الكرم الشبابيّ، فطلب منّي أن أركع، باركني، وقال لي: “تذكّري أنّ الله يحبّكِ كثيرًا”. كان جوابه صاعقًا كالبرق. ألله يحبّني كثيرًا، الله يحبّني كثيرًا. رحتُ أقولها وأردّدها لرفيقاتي الأوائل: إنّ الله يحبّني، ألله يحبِّكِ كثيرًا، ألله يحبّنا كثيرًا.
منذ تلك اللحظة صرتُ أرى الله حاضرًا في كلّ مكان من خلال محبّته: في أيّامي، في دوافعي، في قراراتي، في الأحداث المفرحة والمعزِّية، كما في المواقف الحزينة والصعبة. إنّه موجودٌ دائمًا، إنّه موجودٌ في كلّ مكان وينير ذهني ويفهمني أنّ كلَّ شيءٍ هو محبّة: ما أنا عليه وما يحدث لي؛ ما نحن عليه وما يهمّنا، يفهمني أنّني ابنته وهو أبي، وأنّ لا شيء، لا شيء خارج عن حبّه، ولا حتّى الأخطاء التي أرتكبها لأنّه يسمح بها؛ إنّ حبَّه يشمل المسيحيّين مثلي، الكنيسة، العالم، والكون كلّه. ومن ثمار محبّته أنّه يساندني ويفتح عينيّ على كلّ شيءٍ وكلّ شخص.
لقد تمّ التحوّل فيّ وأدركت ما هو الجديد في إيماني: أنا أعرف من هو الله، الله هو محبّة، ألله محبّة. نحن ندرك ذلك، ونحن مقتنعون به حتّى الأعماق. وتغيّر كلُّ شيءٍ في حياتنا. لم تَعُد الإبتسامة تُفارق شفاهَنا لا في ظروف الحرب، ولا عندما نكون بعيدين، ولا حتّى تحت القصف، أو في خطر الموت: كلّ شيء، كلّ شيءٍ هو تعبيرٌ عن محبّة الله.
هو يزرع فينا هذا الإيمان الجديد به، تلك المحبّة في قلوبنا، كما لو كان يدفن بذرةً في الأرض. هذا هو اكتشافنا العظيم. لكنّ العالم من حولنا لا يعرف ذلك، فأوصلتُ البشرى إلى أكبر عددٍ ممكن، أمّي، وأبي، وأخواتي، وأخي، وأصدقائي. ونحن قد آمنّا بالمحبّة، وهذه هي حياتنا الجديدة.
وما كان منّا إلاّ أن أعربنا عن رغبتنا في أن ندفن – إذا مُتْنا في الحرب – في قبرٍ واحد، يكُتبُ عليه بدل إسمنا هذه العبارة “ونحن قد آمنّا بالمحبّة”.

المدينة الجديدة

Spread the love