كيف السبيل للنموّ بعد الصدمة؟
لِما تسحقُ الصدمات بعض الناس، فيما بعضهم الآخر يصبحون أشدّ قوّة بعدها؟
يرتبطُ تأثير الصدمة، في حياتنا، بكيفيّة قراءتنا واقعَ الحدث الكارثيّ، وبنوعيّة تَقيِيمِنا له، هناك موقفان: إما سلبيّ وإمّا إيجابيّ:
أ‌- القراءة السلبيّة: في القراءة السلبيّة، يتّجه المصدوم إلى تضخيم كارثيّة الصدمة، بتعظيم هَولِها وبإستفظاعِ مفاعيلها. فيما هو يقلّل، بالمقابل، من أهميّة قدرته الذاتيّة على مواجهتها، ويَستَخِفّ بطاقته على حُسن التعامُلِ معها. إذ ذاك يشعر بالعجز يَنتابُهُ وبالقلق، فيجمد، وينهزم… يَستسلِم، وينهار فتسحقُهُ المصيبة.
ب‌- القراءة الإيجابيّة. في القراءة الإيجابيّة، يميلُ المصابُ إلى الحُكم السليم على الوضع المؤلم. يُخفّفُ من وطأة خشونة الحدث. يواجهه، ويتصدّى له. يُجلُّ إيمانه بالله المُحبّ الرحوم، ويعظّمُ ثقته بموارده الذاتيّة وبطاقاتِه البشريّة، وبقُدُراتِه الخلاّقة على هضم الحدث. إذ ذاك، يتمكّن من تخطّي الصدمة. يَستخْلِصُ منها الدرس، فيزيد نضجًا ونُمُوًّا، من جرّاء تجاوزه الصدمة: Croissance après le trauma
لقد أثبتت الدراسات أنّ القراءةَ السلبيّة تترافقُ مع انفعالاتٍ سلبيّة: خوف، حزن، غضب، شعور بالذنب… تُحرّك، في جسمنا ثلاثين هرمون توتّر، مُشبّعة بالكرتيزول، ممّا يزيدُ القلق ويُضاعف الكآبة التي تُؤدّي إلى تعطيل الوظائف المعرفيّة، cognitive، العقليّة المنطقيّة، المعروفة عند الناس، باللغة العاميّة اللبنانيّة، تحت تسمية “سَكَّر راسي” أو “إنسمّ بَدَني”، دلالةً على خربطة الوظائف الفيزيولوجيّة: أوجاع، ضيق تنفُّس، صعوبة في النوم، فقدان القدرة على التركيز، عدم التمكُّن من إيجاد الحلول، والشعور بالعجز المُقعد…
أصبح من المعروف علميًّا، تلازم الإنفعالات الإيجابيّة مع القراءة الإيجابيّة للواقع، بسبب إستنفار هرمون المضاد للتَوَتُّر، hormones anti-stress، الذي يزيدُ فعاليّة القدرات العقليّة لدى صاحب هذه القراءة، فيَقدُمُ على إدارة المآزم بإنتاجيّةٍ خلاّقةِ مُبدِعة. يجيدُ تَجنُّبَ الإضطرابات على المدى البعيد.

تجدُرُ الإشارة الى أنّ هرمونَ التوتُّر، يتحرّكُ ويندلقُ تلقائيًّا، وبطريقةٍ غير إراديّة، وغير مُدْرَكَة، فتتراكم سُمومُهُ في الجسم دونما تَحكُّمٍ من قِبَلِ المُتوتّر المصدوم.
في المقابل، إنّ تحريكَ “هرمون المضادّ للتوتُّر”، يتطلّبُ تدخُّلاً مباشرًا من قِبَلِ المُتوتِّر، لإعمال إرادته الواعية وبَذلِ جُهدِهِ المُنَظَّم. إنّها مسؤوليّة الإنسان في مواجهة الصدمة للقضاء على مفاعيل التوتُّر، بهدف الشعور بالقدرة على النهوض، للإنطلاق ولإعادة البناء.

كيف يُمكِنُنا أن نحرّكَ الهرمونات المُضادّة للتوتُّر والقلق والكآبة؟
هناك ثلاثة هرموناتٍ يُمكن التحكُّمَ بها، من شأنها إلغاء مفاعيلَ هورمون التوتًّر، وتسهيل عمليّات السيطرة عليها، وبالتالي، إيجاد مخارج الحلول المناسبة، وهي: هرمون الأندورفين، هرمون الميلاتونين، وهرمون الأوسيتوسين.
1- الأندورفين Endorphine
إنّه هرمون السعادة، مُهمّتُهُ تخديرِ الألم وتَخفيفِه، تمامًا كمفعول المورفين. يُمكن أن نُفعِّلَهُ بأساليبَ عديدة، منها:
أ‌- الرياضة، وبخاصّةٍ السباحة والرقص.
ب‌- الغناء، الضحك، البسمة.
ت‌- تِقنيّات الإسترخاء والتأمُّل.
ث‌- طرق التنفُّس النظاميّ والمُتمَهِّل، من البطن:
– شهيق مع إمتلا البطن لمدّة ثلاث ثوانٍ.
– ضبط الهواء لمدّة ثانيَتين.
– إخراج الهواء زفير مع إنقباض البطن في ستّ ثوانٍ.
تكرار تقنيّة التنفّس هذه عشر مرّات، وإعادتها ثلاث مرّات في اليوم.
2- الميلاتونين Mélatonine
إنّه هرمون مضادّ للكآبة، وهو منوّمٌ طبيعيّ:
أ‌- ينظّف خلايا الدماغ وكلّ خلايا الجسم من السموم.
ب‌- يُجدّد خلايا الدماغ، يُنظّم عمل الجهاز العصبيّ، يُنشِّطُه، ويَشْحَنُهُ بالطاقة.
3- الأوسيتوسين Ocytocine
إنّه هرمون الحُبّ والمناعة، تفرزُهُ خلايانا، في عدّة حالات، أهمُّها:
أ‌- في فِعْلِ لقاءاتٍ مُفرحةٍ مع الأهل والأصدقاء والأحبّة.
ب‌- في ممارسة الأعمال التطوُّعِيّة، والتضامُن مع القريب.
ت‌- في تلاوة الصلاة، والإبتهالات، والشكران.
ث‌- بخاصّة في إقامة صلاة الشكران قبل الرقاد، حيث نستعرضُ دقائقَ ما قُمنا به خلال اليوم من خلال خمس أفعال شكرٍ ومَمْنونيّة، لمن ساعدنا، وأسعدنا خلال نهارنا، وخمس أفعال شكرٍ لأنفُسِنا، عن خمس إنجازاتٍ حَقّقناها، وارتحنا لنجاحاتِنا فيها.إنّ التركيز على التفكير الإيجابيّ والأحداث الإيجابيّة مثل شُكرِ الآخَر، وتهنئةِ الذات على أعمالٍ جيّدةٍ أنجزناها خلال النهار، واسْتِذكارِها قبل الرقاد، يساعدُ على النوم الهادىء السريع العميق. أثناء هذا النوم الهانىء، تعملُ الهيبوكانب Hippocamp، كآلة تسجيل، تستعيدُ المعلومات الإيجابيّة، تكرّرُها، تحفظُها في الذاكرة…فتُصبح مصدرَ ثقتِنا بذواتِنا، تشحنُ قُدراتِنا بالطاقة على مواجهة الصعاب وإيجاد الحلول لها، وتخطّيها… فتصبح عامِلَ صمودٍ وإستنهاض، facteur de resilience et de ressourcement.

زوّادتي لكم هي: أن يَعِيَ كلٌّ منّا مسؤوليّتَهُ الذاتيّة عن:
أ‌- تثبيتِ فَرَحِه.
ب‌- إلغاءِ مفاعيلَ هرمون التوتُّر والقضاء على سُمومِهِ التي تتراكم، دون إرادةٍ منّا، وتتكدَّسُ غالبًا خارجًا عن إدراكنا الواعي.
سعادتُنا هي إذن بمُتناوَلِنا، هي حصيلةُ قرارِنا الحُرّ. لقد أثبتَ العِلْم أنّه بمقدورِنا أن نُغيّرَ نماذجَ سُلوكيّاتِنا، ونُحسِّنَها على الدوام، أي مدى العمر.

                                                                                                                                                                                 د.ماري خوري

معالجة نفسيّة وأستاذة جامعيّة

Spread the love