تكمن قوة التصوّف في عالميّته وإنسانيّته، فهو حاضرٌ في كلّ سَعْيٍ إنسانيٍّ نحو المُطلق، كما نجده في “الانطلاق” عند الهندوس، و”النيرفانا” عند البوذيّين، و”الموكشا” في الديانة الجينيّة، وفي المحبّة الإلهيّة لدى أفلاطون، ونظريّة الفيض الإلهيّ عند أفلوطين، وفي القبالا والحسيديّة اليهوديّة، وفي الرهبنات المسيحيّة، وغيرها من طرائق العرفان في تاريخنا الإنسانيّ.
التصوّف هو علمُ التزكية ومكارمُ الأخلاق، وفيه يتعرّف الإنسان إلى مسالك النفس وانفعالاتها وطرائق التعامل معها. والصوفيّة هم أهلُ المحبّة والصفاء، وهم الذين يعبدون الله بعشق الروح، لا بحدّ الحرف.
كلّ النفوس مهيّأةٌ لاستقبال نفحات العرفان بما أودعه الله فيها من محبّة. فالإنسان مهما كان دينه، فإنّ له نصيبه من التصوّف، والنفسُ البشريّة مهما كانت همومها، تبقى تتشوّقُ إلى بلوغ الكمال والعرفان، وفي مسيرة نهوض القلب إلى طلبِ العرفان، لا بدَّ للسالك أن يتخلّى عن الأوصاف المَذمومَة، ويُخرجَ من قلبه حظوظَ الرغبات، وعليه أن يجاهدَ نفسه فلا يتعلّقُ قلبُهُ بمُغرَياتِ الدنيا. وهنا تظهر الصلة العميقة بين التصوّف والجهاد الأكبر الذي يتمثّل بجهاد النفس في سبيل معرفة الله، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. فالآية هنا لا تتحدّث عن جهاد اليد والقتال، وإنّما عن مجاهدة السالكين واجتهادهم في طريق معرفة الله.
الانتقال إلى الإيمان لا بدَّ له أن يمرَّ برحلةٍ يقطع فيها الإنسان القفار، قبل أن يذوقَ فمُهُ طعمَ الثمار. ومن كانت هجرته إلى الله فقد بلغ القصد، مهما كان حُكمُ الناس عليه.
التصوّفُ الأكمل هو التصوّف الذي يبلغُ فيه الإنسانُ ذروةَ العطاء والرحمة بالكائنات، وليس مجرّد الانتساب إلى تصوّراتٍ نظريّةٍ يعتقدُ صاحبُها كمالَها. فعلى قدر الحقائق والمعارف التي يبلغُها السالك، فإنّ أثرَها ينعكس على سلوكه وعمله، كما يقول الكتانيّ: “التصوّف خُلُق، فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الصفاء”.
يشتمل التصوّف على قوّةٍ توحيديّةٍ عميقة، جعلت خصومه يتّهمون أتباعه بأنّهم دعاةٌ إلى وحدة الأديان والوجود، ولعلّ التأمّل في الحديث القدسيّ: “…ما زال عبدي يتقرّب إليَّ بالنوافل حتى أُحبَّه، فإذا أحببتُهُ كنتُ سَمْعَه الذي يسمع به، وبصرَهُ الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقَدَمه التي يمشي بها” (البخاري)، يؤكّد أنّ المسألة تتعلّقُ برمزيّة اللغة ودلالاتها الروحيّة.
التصوّف هو رحلةٌ تبدأ من التخلّي عن الرذائل والشهوات، وترتقي إلى التحلّي بالفضائل والأخلاق الحميدة، وتكتمل بالتجلّي وبلوغ الحقيقة والسعادة العظمى. والحقيقة عند الصوفيّ ليست مجرّد أقوالٍ يحفظها أو أفكارٍ نظريّة يُؤمن بها، وإنّما هي “حقُّ اليقين” الذي يختبره السالك ويتذوّقُ معانيه.
انكشافُ المحبوب والإقامة بجواره، هو عين مرتبة الإحسان الذي يبتغي السالك فيه معاينة المحبوب، وهو مصداقُ تلك الزيادة التي ترتقي فوق نعيم الجنّة “لهم الحسنى وزيادة”.
ينفتح الصوفيّ في سبيل سَعْيِهِ الروحيّ على الوجود كلّه، وهذا ما يُعبّرُ عنه الإمام عليّ بقوله: “ما رأيتُ شيئًا إلاّ ورأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه”. وهذا القول ليس بعيدًا عن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]، فالصوفيّ يسعى نحو جمع ألوان العرفان في لوحةٍ واحدة، تملأ العينَ جمالًا وجلالًا.
ينظر بعض الدارسين إلى التصوّف نظرةَ شكّ، باعتباره هروبًا سلبيًّا إلى الداخل بعيدًا عن مواجهة الواقع ومشكلاته الاقتصاديّة والاجتماعيّة. لكنّ إنجازات التصوّف في نشر الإسلام في أفريقيا وجنوب شرق آسيا، وجهوده في الوقوف أمام الاحتلال كما في ثورة الأمير عبد القادر الجزائري في الجزائر، والشيخ عمر المختار في ليبيا، فيها الكفاية لكلّ باحثٍ منصف.
تكفيرُ الصوفيّة وشيطنة التصوّف، هو أحدُ مخرجات التديّن الحرفيّ الذي لم يستوعب عالميّة الروح وإنسانيّة الدين، ويكفي أن نعترفَ بأنّ تلك المنطلقات التي أنتجت تكفير ابن عربي وابن الفارض والسهروردي، هي ذاتها التي أنتجت اليوم أسوأ أشكال التطرّف والبغضاء!
عندما ندركً أنّ الروحَ التي هي نفخةٌ إلهيّةٌ واحدة، أنّها أعدلُ النِعم قسمةً بين الناس، وأنّها تستعلي فوق الألوان والملل والأعراق، فسوف ندرك أنّ حقيقةَ التصوف لا يبلغُها سوى من زكت أنفسهم وارتقت أرواحهم نحو مشارف الحقّ والحقيقة.
الدكتور عامر الحافي