أودُّ أن أؤكّد بدءًا أنّ الرياضة ثقافةٌ موجّهةٌ نحو السلام والتنمية والأخوّة العالميّة وأنا مقتنعةٌ بذلك. وقد وصف بعض علماء الاجتماع الرياضة بأنّها “حربٌ دون إطلاق النار “. ولكن حتّى في أشكالها الأكثر تنافسيّة يمكن أن تكون الرياضة عنصرًا من عناصر صنع السلام، عدا أنّها ومن خلال عمليّة المواجهة وتصفية النزاعات ضمن اللعبة، تَخلقُ الرياضة إمكانيّات علائقيّة كبيرة.
على الإعلام الدّيني أن يعزّز القيم الجوهريّة للدّين، ويُعمِّق روح المواطنة والتعدديّة الدينيّة والثقافيّة.
فمن المشكلات الأساسيّة التي تواجه الإعلام الدّيني إلى جانب الخلط بين الدين والسياسة، مشكلة الخلط بين الدين والرياضة، بين الدين والعلم… وبما أنّي هاوية لكرة القدم استوقفني ما يدور حول اللاعب محمد صلاح.
فقد ركّز الإعلام الغربيّ ووسائل الإعلام الاجتماعيّة مؤخّرًا على تشجيع جماهير نادي ليفربول الإنجليزي للاعب كرة القدم المصريّ محمد صلاح. والملفت في حالة صلاح هو الروح الإيجابيّة التي عبّر عنها الجمهور الإنجليزي تجاه الإسلام بسبب اللاّعب العربي.
“إكسبرس” البريطانيّة تقول:
“محمد صلاح ليس اللاعب المسلم الوحيد في دوري كرة القدم الإنجليزي والدوريّات الأوروبيّة الكبرى. وهناك عدد كبير من أفضل لاعبي كرة في أوروبا من المسلمين. ويحظى هؤلاء اللاعبون بإعجاب وتشجيع الجماهير الأوروبيّة، ويعبّر معظمهم عن انتمائهم الإسلاميّ بقراءة الفاتحة قبل دخول الملعب. لكن محمد صلاح يختلف عن البقيّة بطريقة احتفاله بتسجيل الأهداف: السجود شكرًا لله في الملعب، في تعبير أوضح عن هويّته الإسلاميّة. ولا شكّ أنّ الجمهور يعرف ما يعنيه ذلك، ولذلك قال المشجّعون إنّهم سيتبعونه إلى المسجد عندما يسجّل الأهداف.
إن الجديد والمثير للاستغراب في نشيد المشجّعين الإنجليز لصلاح، هو ما أوضحته الواشنطن بوست باقتباس تقارير شبكة “فير”، وهي منظمة غير ربحيّة مقرّها لندن وتدرس التمييز في كرة القدم، بأنّ المشجّعين البريطانيّين كانوا مسؤولين عن أكبر عدد من الحوادث ذات الطبيعة العنصريّة، والقوميّة والمعادية للإسلام في كل ملاعب أوروبا في هذه الفترة. ويقول المدير التنفيذي للشبكة، بيارا باور: “هذه هي المرّة الأولى التي أشاهد فيها مثل هذا التقدير الوافر والإيجابيّ والواضح، الذي يشمل دين لاعب، هناك أيضاً أغانٍ أخرى يعبّر فيها جمهور ليفربول عن حبه لمحمّد صلاح، والتي تشير إليه بأوصاف “الفرعون” أو “الملك المصري”. ويقول بيارا: “صلاح يلعب جيّدا، وهو يثير حماسة المشجّعين، ويجعلهم أكثر استعدادًا للقبول بخلفيّته العرقيّة والدينيّة بينما لم يكونوا يفعلون ذلك سابقاً”. ويضيف: “اللاعبون الجيّدون يكسرون الحواجز. ونحن نعلم أنّ تقدير شخص ما كلاعب يفضي حقًّا إلى النظر في هويّته، وبالنسبة لكثير من المشجّعين، القبول بهويّته”.
أصبح الدولي المصري محمد صلاح يمثّل حالةً خاصّة، بل ظاهرة بين جماهير ليفربول الإنجليزي، حتى إنّ هذه الجماهير تأثّرت بطريقة احتفال صلاح بعد كلّ هدف يسجّله لفريقه، وهي السجود لله شاكرًا.
أجد أنّ الوسائط الإعلاميّة الغربيّة نوّهت بخلقيّات اللاعب وبأنّ الدّين ليس بحاجزٍ بين البشر، وإنّما على العكس، حين يصبح الدّين معاملةً حسنة، ونشرًا للخير، يحثّ على بناء عالم سلام، متمايز بأبنائه ومتطوّر بسبب تقبّلهم بعضًا لبعض.
ويقول مروان سعيد، خبير كرة القدم المصري، لبي بي سي سبورت عن صلاح:”إنّه هادئٌ وبسيطٌ جدًّا كشخصٍ و كلاعب كرة قدم، وبالكاد يظهر مع وسائل الإعلام في مصر أو في الخارج”.
ويضيف: “إنّه يستخدم وسائل التواصل الاجتماعيّ بمستوى معتدل، فهو لا يحبّ الكلام كثيرًا وهذا شيء جيّد”. ويوضح مروان أن محمد صلاح أو “مو”، كما يلقبّه الجمهور الإنجليزي، تزوّج في سنّ مبكرة وأنجب طفلته مكّة ويبقي بعيدا عن دائرة الضوء”.
تصدّى هذا اللاعب لكلّ وسائل الاتّصال الاجتماعي التي تلحق بالإسلام تشويهًا، وتصدّى للإرهابيّين الذين ينشرون الذعر والهلع والخوف، وذلك بتصرّفه وحسن خلقه!
وأنقل بعض ما جاء عن جريدة الموجز للصحفيّ فادي عبد الشافي من شهر آذار ٢۰۱٨
“أزاح تهمة الإرهاب عن الإسلام.. وأصبح قدوة لشباب العالم،
نجح في تغيير عقليّة الشعب الإنجليزي تجاه العرب والمسلمين،
تألّقه دفع مشجّع لمانشستر يونايتد لعشق ليفربول،
يحمل آمال ملايين المصريين في كأس العالم لهذه السنة،
سجدة صلاح أصبحت أيقونة الإسلام وعلامة مسجّلة باسم اللاعب.
نجح اللاعب صلاح الذي لم يكمل سوى ستّة أشهر فقط في انجلترا في قلب الموازين وتغيير معتقدات راسخة في أذهان الشعب الانجليزي منذ سنوات طويلة، والتزم الفرعون الصغير بالحكمة التي تقول “لا تحدّثني عن الدين كثيرًا، ولكن دعني أرى الدين في سلوكك وأخلاقك وتعاملاتك”، صلاح لم يدعُ أحدا إلى تغيير ديانته والدخول في الإسلام ولم ينصب نفسه شيخا أو داعية دينيّة، لكنّ الدّين ظهر في سلوك اللاعب من خلال تعاملاته مع الآخرين وأخلاقه التي جذبت الكثير من الناس لمحاولة التعرّف على الدّين الذي يتبعه صلاح بعد رؤية اللاعب بهذه الأخلاق”.
ولكنّ هناك من يحاول دومًا دسّ التشويه… والإعلام لا يترك أًحدًا سالمًا… لكأنّه ينقُضُ كلّ ما بُنيَ ليغذّي الإسلاموفوبيا والخوف من المسلمين! فالسعي هو كسبُ الجمهور بـأيّ ثمن، وتسجيل ال “سكوب”، وإن كان على حساب تدهور العلاقات بين الأديان وبين من هم من دينٍ واحدٍ وشحن النفوس.
فقد تداولت وسائل إعلام مصريّة تسجيلاً صوتيًّا لداعيةٍ سلفيّ، ينتقد فيه نجم ليفربول الإنجليزي، محمد صلاح، ويطلب منه التوبة إلى الله، وترك كرة القدم.
وفي إجابته عن سؤال متّصل استفسر حول مشروعيّة سجود محمد صلاح عند إحرازه هدفًا، قال الداعية المصريّ هشام البيلي، أحد أتباع ما يُعرف بالتيّار “المدخليّ”، إنّه معترضٌ على لعب كرة القدم بالأساس، ولا يرى مشروعيّتها. وطلب البيلي من محمد صلاح “التوبة إلى الله” من المعاصي التي يرتكبها، قائلاً إنّ من يلعب كرة القدم يكشف فخذيه، ويضطر إلى الاختلاط بالفتيات، وربما تقبيلهنّ، إضافة إلى تسبّبه بسفك دماء في بعض الأوقات، إذ احتدّت الأمور بين الجماهير.
يُذكر أن الإعلاميّ محمد الباز، عبر برنامجه “۹٠ دقيقة” في قناة “المحور”، نشر التسجيل، الذي يأتي بعد يومَيْن من دعوة كاتب مصري لصلاح إلى حلق لحيته، مشبّهًا إيّاها بلُحى “المتطرّفين”.
وقال الداعية البيلي إنّ سجود صلاح في الملعب يشبه سجود السارق بعد نجاح سرقته، أو سجود القاتل بعد الانتهاء من جريمته. وطالب البيلي من صلاح بالعودة إلى مصر، وطلب العلم الشرعي، ونشر الدعوة.
كما ورد على صفحات الفايسبوك تحذير الداعية السلفي حسين مطاوع اللاعب محمد صلاح من الإخوان المسلمين قائلاً أنّهم يحاولون التقرّب منه وضمّه لصفوفهم، فهي جماعةٌ ترمي بشباكها حول كلّ شخص من شأنه أن يضيف إليها لا سيّما إن كان هذا الشخص يملك قاعدة جماهيريّة بالملايين مثل حالك. وأضاف: “سوف نجد بالفترة القادمة ثناءاتٍ بالجملة منهم عليك ودعوةً منهم للإلتفاف حولك، ومحاولات لترغيبك في الجماعة، وسيكون مفتاح ذلك استغلالهم لعاطفتك الدينيّة الفطريّة”.
ونجد بالفعل الداعية السعودي الشهير عائض القرني، مساء الأحد، يوجّه رسالةً للاّعب المصريّ محمد صلاح لاعب نادي ليفربول الإنجليزي شكره فيها على حُسن تمثيله للإسلام، داعيًا الجميع أن يشكروه، معتبرا أنّ سجدته في الملعب بعد إحراز هدفٍ يمكن أن تكون أحسن من ألف محاضرة.
ونشر مقطع فيديو ، وجَّه فيه رسالة إلى صلاح، ومتابعيه، قائلا: “أنا غرّدت اليوم شاكرًا اللاعب الشهير محمد صلاح أبو مكّة، وحتّى كنيته أبو مكّة رائعة وجميلة، وهو يسجد لله عندما يسجّل هدفًا، وغالبًا ما يسجد عند تسجيل الأهداف”. وتابع: “يحقّ لنا أن نشكره، ونشكر كلّ من يمثّل الإسلام تمثيلاً حسنا”. وأردف: “سجد لله في ملعب أجنبيّ؛ ليقول العظمة لله، الألوهيّة لله، الربوبيّة لله، العبوديّة لله، العزّة لله، المُلك لله (…)”.
تستغلّ الرياضة ومع الأسف لمآرب ومصالح خاصّة!
يُعتبرالإعلام في أدبيّات السياسة بمثابة السلطة الرابعة لكونه آلةً جبّارةً للتأثير على الرأي العام والجماهير وتوجيههم. هي قوّةٌ لا يُستغنى عنها لدى الشعوب والحكومات خاصّةً في ظلّ الثورة التكنولوجيّة والمعلوماتيّة الراهنة.
يمكن أن يكون الإعلام بنّاءً ومهنيًّا ويوصلَ رسالةً تبني الجسور بين الشعوب والأديان،
فمن يعيشُ إيمانه بالله بصٍدقٍ وشفافيّة مرحبٌّ به أينما كان وأينما حلل!
إنّ الرياضة تهذّب النفس وتدعو للتضامن والإلفة بين الناس، فعلى الإعلام الديني أن يعمّق اهتمامه ببناء المجتمع الإنسانيّ المعاصر، من خلال التركيز على حقوق الإنسان، والمواطنة، والديمقراطيّة، وإعلاء قيمَتَي الوحدة والعدالة الاجتماعيّة. وكلّ التوفيق والمثابرة لمحمد صلاح!
ريما السيقلي