هو قسّيسٌ وكاهنٌ وأبونا
هناك أسئلةٌ مثيرةٌ حول دور الكاهن و دور العلمانيّ. من أين كانت الإنطلاقة؟ وكيف تطوّر المسار؟ وهل أصبح الكاهنُ هو المانح والعلمانيُّ المتلقّي؟ أم هناك انسجامٌ بين الطرفَيْن، وكلٌّ منهما يلعبُ دورَهُ بهدفِ بُنيانِ الجماعة؟
أُطلِقَ المسيحيّون على رؤسائِهم جميعًا ألقاب عدّة: “بابا” لأسقفِ روما و”بابا” لأسقف الإسكندريّة، ولُقّبَ: بال”أنبا” أساقفة الكنيسة القبطيّة، أمّا لقب “أبونا” فأُطلقَ على جميع الكهنة .

كلمة كاهن: أصلُها عبريّ ”كوهين”، وتشيرُ في العهد القديم إلى اللاويّين المسؤولين عن الهيكل. نجد في (لوقا ١:٨) “وبينما كان زكريّا يؤدّي خدمته الكهنوتية…”، وتُرجِمتْ كلمة كاهن في اليونانيّة ب ”إيروس” وفي اللاتينيّة ب” ساسِرْدوسْ”. ويشيرُ كلُّ لفظٍ في ثقافته إلى الإنسان المُلْقَى على عاتقِهِ الإهتمام بالهيكل وبتقديم الذبائح. يشيرُ هذا اللفظ في العهد الجديد إلى الكهنة اليهود وأحيانًا إلى الجماعة المسيحيّة كلّها: ”أما أنتم فنَسْلٌ مختارٌ وكهنوتٌ ملوكيٌّ وأمّةٌ مقدّسةٌ وشعبٌ إقتناهُ الله” (ابط ٢:٩).

كلمة قسّيس: أصلُ هذه الكلمة سريانيٌّ و تعني الشيخ. وهي ترجمةٌ لِلَفظةٍ يونانيّة: ”برسبيترس”. يستخدم العهد الجديد هذا اللفظ ليشير إلى المسؤولين عن الجماعات المسيحيّة الأولى (اع ١١: ٣٠ ؛ ١٧: ٢٠) و( تيط ١ : ٥) ومرادفه ” لإِبيسْكوبْسْ” ومعناه أسقف (اع ٢٠: ٢٨).

وماهو دور “الأبونا”؟
يتضمّن السؤال في الحقيقة أسئلةً عديدةً ومن ضمنِها دور العلمانيّين. بعد المجمع الفاتيكانيّ الثاني، جرى كلامٌ كثيرٌ حول أهميّة دور العلمانيّين في الكنيسة، لكن يبدو أنّ اليوم، وفي بعض المناطق وعند بعض الثقافات، انحسر دور العلمانيّين من جديد. دعوني أوضحُ شيئًا عن التقليد الرسوليّ: إنّ ما قاله القدّيس إيرينموس بأنّه لا يمكنُ أن توجدَ كنيسةٌ بدون قسّيس، يجعلُنا نجزُمُ بضرورة وجود القساوِسَة في الكنيسة الأولى. و لكنّنا لا نجد تفسيرًا عن دور القساوِسَة. لذا سوف نعتمدُ على نصَّيْن أساسِيَّيْن للقدّيس بولس الرسول للإجابة على هذا الموضوع .
يرجعُ النصُّ الأوّل إلى سنة ٥٠ م. يقول فيه القدّيس بولس إلى أهل تسالونيكي: (١تس٥:١٢) ”نسألُكم أيّها الإخوة أن تُكرّموا الذين يجهدون بينكم ويرعونكم في الربّ وينصحونكم”. لا يُقدّم القدّيس بولس في هذا النصّ لقبًا واضحًا لهؤلاء الأشخاص، لكنّه يدلُّ على وجود دورٍ لهم على الأقلّ في جماعة تسالونيكي، وهذا يشيرُ بأنّهم أشخاصٌ دورُهمُ يكمنُ في ”الرعاية” و”القيادة” و”النُصح” و”التعليم”.
أمّا النصُّ الثاني فهو عبارةٌ عن مقطعٍ من الرسالة الأولى إلى تيموتاوُس حيث يقول القدّيس بولس في (اتيم ٥ : ١٧): “ألشيوخُ الذين يُحسِنونَ الرعايةَ يستحقّونَ إكرامًا مُضاعفًا ولا سيّما الذين يتعبونَ في خدمة الكلمة والتعليم”. إنّ الذين يترأّسّون الكنيسة ينالون إذًا لقب ”شيوخ”، أي القساوِسة، ودورُهم جليٌّ وهو يَظهرُ بالفِعْلَيْن: يرأسُ ويُعلّم، مع لَفْتِ الإنتباه إلى أنّ هذه الوظائف تُمنحُ على أساس ”الخدمة” وليس “السلطة”، فالدورُ الأوّل للقسّيس هو ”التعليم” ليصبحَ الإنسان ”تلميذًا للمسيح”.
علينا أن نحرُصَ بأن لا يُصبحَ ”خدّام المؤمنين هم قادتُهم”، إلاّ حسب المعنى الذي تحدّثَ عنه يسوع، “من كان فيكم الكبير فهو خادمٌ لكم”. طبعًا من المُمكن أن يكونَ الأمرُ في بعض الأحيان عكس ذلك، أي بأن يصبحَ الخادمُ هو الأكبر، و هذا جزءٌ من ضعف الطبيعة البشريّة. جاء المجمعُ الفاتيكانيُّ الثاني (١٩٦٢-١٩٦٥) ليُصدرَ قرارًا حول ”خدمة الكهنة وحياتهم” ويعزّزَ دورَ العلمانيّين في الكنيسة.

قال مارتن لوثر: ”رأيت حلُمًا”، وأنا مثلُهُ أرى حُلُمًا، أحلمُ بأن أرى شعبَ الله يجدُ مكانَتَهُ الأولى، فهو الكنيسة، وهو جسدُ المسيح. وعندما أفكّر في شعب الله، لا أفصِلُ بين الإكليروس والعلمانيّين. فهم معًا يكوّنون شعبَ الله الذي خلّصه يسوع المسيح، والذي يُوَحّدُهُ الروحُ القدُس الذي يحيا فيه، والذي وبقوّة حُبِّهِ غير المحدودة، يتجاهلُ كلَّ الإنقسامات.
فالحلمُ مهمٌّ لأنّه يبني المستقبل، وهو رسالةٌ نُحقِّقُها. أحلمُ بشعبٍ كلّه إخوة والمحبّة فيه هي القاعدة، فتُعاشُ جميع الوظائف كخدمات، كتلك التي يُقدّمُها الأصدقاءُ الواحدُ إلى الآخر. وهنا ما هو أبعدُ من الصداقة لأنّنا واحدٌ في المسيح. أحلمُ بشعبٍ تكونُ فيه السلطةُ خدمةً ومحبّةً وانفتاحًا. فالأنظمةُ والإيديولوجيّات لها أهمِّيُّتُها، لكنّ الأهمّ هو أن نعرفَ كيف نحيا في ظلِّها بجوٍّ من الصداقة والمحبّة و التواضع.

جوزيف يعقوب

Spread the love