سائق القطار

كيفما نظرتُ حولي أرى الناس خائفةً وقلقة: قلقٌ على الغد، قلقٌ على الوجود، وقلقٌ على الصحّة ولقمة العيش قد يصل عند البعض لدرجة الهلع. وبنظرةٍ إلى الواقع لا لوم على أحد، فالعالم كلّه يعاني أزماتٍ مصيريّة، أهمُّها أزمةُ كوفيد التي ساوت بين الناس بالمرض والخوف وزادت من الأزمات الإقتصاديّة والنفسيّة والعالميّة والمحليّة.
لقد أصابت لبنان، وعلى سبيل المثال، في صميم كيانه، فكان انهيارُ العملة الوطنيّة وتراجع مستوى المعيشة إلى أدنى الحدود الذي راح يهدّد الناس في لقمة العيش وفي توقّف مظاهر الحياة من ماءٍ وكهرباءٍ وتعليم…
أجل، مع كلّ صباحٍ يتوقّع الناس إيجاد حلولٍ للأزمة وإيجاد قوّةٍ تسندهم وتغيّر واقعهم، فيتأمّلون تارةً بانتخاباتٍ جديدة، وطورًا بموفدٍ لدولةٍ كبرى، ولكن مع مرور الوقت بقيَ الواقع هو هو، وزادت خيبات أملهم. ولكن، بعضٌ من الناس حافظ على سلامه وثقته بأنّ النور آتٍ لا محالة. وإذا سمعتَ فلسفتهم للحياة لأخبروكَ بأنّهم يؤمنون بأنّ الحياة سفرة.
إن سافرتَ بوسيلة نقلٍ كالقطار مثلاً، سوف تمرُّ بأماكنَ رائعة الجمال وأيضًا بصحاري وجبالٍ وعرة، وقد تدخل بنفقٍ طويلٍ مظلم، ولكنّك لثقتكَ بمهارة قائد القطار تدركُ بأنّ النفق سينتهي وتعود إلى الضوء من جديد فتصل إلى المحطّة. هناك تعبٌ لكن فرح يرافقه، لأنّ الرحلة كانت موفّقة.
أحبائي إذا كان وجودنا ثمرة والدَيْنا، فالكون ثمرةٌ لحبِّ الله، بالحبِّ خلقه ويراه “حسنٌ جدًّا”، هو الساهر علينا بنظرة الرحمة والحنان. إنّه ليس فقط قائد القطار في سفرتنا المقدّسة، بل هو الطريق الآمن الذي يسير عليه القطار ويضمن وصوله، ألم يقل “أنا الطريق”؟ لنتوقّف ونُمسك يده ونسير معه فينتهيَ الخوف كما يحصل مع الولد عندما يمسك يد أبيه.
أذكر قبل وفاة أبي بقليل، كنت في فصل الصيف مع أولادي في بيتنا في الجبل وهو بيتٌ منفردٌ بعض الشيء، لذا كنت عند حلول المساء أدخل مع الأولاد وأغلق الباب خوفًا ممّا يحمله الظلام. وقتها قصدني أبي ليمضيَ بعض الوقت عندي، كان رجلاً فوق ال ٨٥ من العمر لا يستطيع الرؤية لمرضٍ أصابه. عندما وصل، وبدون انتباهٍ منّي، أصبحت أترك الباب مفتوحًا حتّى منتصف الليل وأسهر في الخارج وأنا بسلامٍ وبلا خوف. بعد فترة، إنتبهت أنّ وجود أبي مَدَّني بقوٍّة غريبةٍ رغم عجزه، فكيف أخاف وأنا مع الآب الكلّيّ القدرة؟ من وقتها عرفت كيف أستندُ على كتفٍ لا أشعر معه بالقلق.
عند كلّ صباح، لنُسلِّم أمرنا للربّ ولنطلب منه التدخّل كأب، وبالتأكيد سنشعر بحضوره بقلب الصعاب بلمسةٍ من هنا ومعونةٍ من هناك.
لنُعيد ثقتنا بمحبّته ولنردّد دائمًا: “بين يديك أسلّم ذاتي”.”
عندها فقط يزول الخوف وندخل في السلام وكأنّنا نرى ما يحدث من مشاكل من فوق… من غيمةٍ صغيرة.

ليلى نصّار

profile

 

Spread the love