رسالة عجوز

“كنتُ متعبةً أتذمّرُ من مرافقتي وعنايتي بالعجزة، إلاّ أنّ ما حدث معي جعلني أندم على كلّ هفوةٍ صدرت منّي. توفّيَتْ سيّدةٌ عجوز في دار العجزة، ووجدتُ بين أغراضها هذه الرسالة حيث تقول: “أنظري إليّ أنت التي تساعديني بمأكلي ومَلْبَسي واسْتِحْمامي. بما تفكّرين عندما تنظرين إليّ؟ ماذا ترين؟ غالبًا ما ترينَ امرأةً مُسِنّةً مُشاكِسَة، لا تستجيبُ لكلامك، بخاصّةٍ عندما تصرخين: “حاولي، حاولي أن تفعلي ما أقولُهُ لكِ…”، عجوزٌ مزعجة، تفقدُ حذاءها وجواربَها باستمرار… تلوّثُ ثيابها عندما تأكل أو تشرب…
هل هذا ما ترين؟ هذه لستُ أنا. سأقولُ لكِ من أنا. إفتحي عينيكِ وأذنيك. ترعرعتُ في عائلةٍ مُحِبّةٍ بين أمّي وأبي وإخوتي وأخواتي التسع. وفي السادسة عشر من عمري كنت أتمتّعُ بكلّ حيويّةٍ وفرح، أحلمُ بالشابّ الذي سأحبّه وأتزوّجه.
في عمر العشرين، وجدتُ شابَّ أحلامي. يرقص قلبي عندما أتذكّرُ الوعدَ الذي تبادلناه يوم زفافنا…
في عمر الخمسة والعشرين كان لديّ أولادي وكانوا بحاجةٍ إليّ لِيَبْنوا حياتهم.
في سنّ الأربعين عرفتُ أنّه في القريب العاجل سوف يرحلُ أبنائي من البيت ليبنيَ كلُّ واحدٍ عائلته. ولكن، رَجُلي بجانبي يسهرُ عليّ.
في عمر الخمسين صار لدينا أحفادٌ يلعبون ويركضون فرحين من حولنا ونحن نفرح بهم.
ولكن، سرعان ما أتَتِ الأيّامُ السوداء: تُوُفّيَ زوجي. وصرتُ أنظرُ إلى المستقبل وأرتَعِشُ خوفًا لأنّ أولادِي منهمكين بتربية أولادهم…
أفكّرُ بالسنين الماضية والحبّ الذي عِشْتُهُ وقد أحاط بي من كلّ صوب.
أمّا الآن فأنا عجوزٌ، جسدي ينهار، وقد خارت قواي وغاب سحري. أصبحتُ شِبْهَ جُثّةٍ هامدة، لكن اعلمي أنّ داخل هذه الجثّة لا يزال ينبض قلبُ الصبيّة. أتذكّرُ الأفراح والأحزان، أشعر بالحياة في كلّ مكان، وأريد أن أحبّ، لكنّي أقبلُ الواقع بقساوته وأعرفُ أنّ ما من شيءٍ يدوم.
أنتِ التي تهتمّين بي، لا تنظري إلى العجوز السيّئة المزاج، أنظري جيّدًا وستعرفين من أنا”.
ليتنا ننظرُ إلى كلّ إنسانٍ بالعمق ونتصوّر كم من الحبّ قد نبع ولا زال من قلبه، وكم وهب لمن يحيطه الحنان والدفء والأمل. أريد هذه النظرة لي… علّمتني عجوزتي أن أعيشَ جوهرَ الحياة وملأتْ قلبي حكمةً وعزمًا جديدا”.

المدينة الجديدة

Spread the love