حبّة الحنطة

يُجمعُ أهلُ العِلم على أنّ حبّة الحنطة أو القمح رافقت الإنسان منذ بداية رحلة تَحَضُّرِه، أي منذ عشرة آلاف سنةٍ تقريبًا. بل يرى الكثيرون أنّها كانت في أصل هذا التحضُّر. فمِنَ المعروف أنّ إنسان العصور الحجريّة عاش قرابَة ثلاثة ملايين سنة جوّالاً ورحّالاً، ساعيًا وراء حيواناتٍ وطيورٍ يصطادُها، أو ثمارٍ ونباتاتٍ يقطفُها ويَقتاتُ منها. كانت حبَّة القمح من بين النباتات التي شكَّلت جزءًا مهمًّا من غذائه. وقد اكتشف تدريجيًّا أنّ الحبّاتَ التي كان يتركها مرميَّةً في مكانٍ ما سُرعانَ ما كانت تعود فتنبُتُ في الشتاء ليكتمِلَ نمُوّها في مطلع الصيف. فقرّر في حينه، أن يبذرَ الحبوب في أماكن من اختياره وأن يبقى بقربها مُتخلِّيًا عن حياة الحِلِّ والتَرْحال التي استمرّت ثلاثة ملايين سنة. فبدأ، من حيث لا يدري، أهمّ ثورةٍ سلميّةٍ في تاريخ البشريّة، “الثورة النيوليتيّة”.
تخلّى الإنسان عن حياة التَرْحال وبنى أوَّلَ بيتٍ واخترع أدواتٍ زراعيّة (كالمجرفة، والمنجل والجاروشة…) واكتشف الفخّار وصنع الجرّة والخابية لتخزين المياه والمحاصيل… وتحوّلت حبّة الحنطة طحينًا فخبزًا وصارت العنصر الأساسيّ في نمط تغذيته، بل في نمط تغذية آلهته. فقد اكتشف معهدٌ جامعيٌّ في باستيا (كوريسكا – فرنسا) مكوِّنات الخبز المُقدَّس، خبز التقادم، عند الفينيقيّين، ويُشكِّلُ القمح، بطبيعة الحال، مُكوِّنه الأساسيّ.
ومنذ بداية التحضّر دخلت حبّة الحنطة في الطقوس الدينيّة والمَدْفنيّة إلى حدّ أنّها باتت، على الأقلّ في بعض المناطق، رمزًا للبركة نظرًا لتكاثرها، ورمزًا لميلادٍ جديدٍ في حياة ما بعد الحياة نظرًا لمَوْتِها كي تعطيَ سنبلةً كاملة. فعندما بدأ الإنسان الجُبَيْلي يدفن موتاه في جرار فخّارية، خلال الألف الرابع ق.م.، لم يصنع جرّة خاصّةً لهذه الغاية، بل كان يختار الخابية المخصّصة في الأصل لحفظ “مونة” القمح ليستعملها تابوتًا. كان يدفن فيها الميت في وضع الجنين “ليولدَ في حياةٍ جديدة”. كما كان يضع معه “زوّادة” الطريق إلى الآخرة من ماءٍ وموادٍ غذائيّة بينها القمح والزيتون.
لا تزال حبَّة الحنطة حتّى يومنا عنصرًا غذائيًا لا غنى عنه. لا بل لا تزال بعض التقاليد القديمة مستمرّة في مجتمعاتنا الحاليّة حاملة رمزيّة لها علاقة بالحياة والبركة. فالسنَيْنِيّة التي نقدِّمُها احتفالاً بظهور أول سنٍّ عند الطفل تُظهرُ في الواقع أهميَّة الحدث، إذ سيبدأ الطفل بتناول الغذاء الأساسيّ أي الخبز المصنوع من الحنطة فنتمنّى له أن يعيشَ العمر المديد.
وتحافظ القرية اللبنانيّة على تقليدٍ في التربية يمنعُ أيًا كان من أخذ لقمة جاره على مائدة الطعام، لأنّه بذلك “يأكل من عمره”، ولكنّه لا يمنعُ مثلاً أكل فاكهة الآخر أو على الأقلّ لا ترافقه أيّ ملاحظة عن العمر. وعلّمونا كذلك أن نلمَّ كسرة الخبز المَرْمِيّة في الطريق ونضَعَها في مكانٍ لا تدوسه الأقدام، لأنّ الخبزَ بركةُ ونعمةُ من الله. كما يحافظ الكثيرون على تقليد تزيين مغارة الميلاد بخضار القمح الذي نزرعه يوم عيد البربارة.
لعلّ العودة إلى الكتاب المقدّس قد تفتح لنا أفقًا جديدًا حول حبّة الحنطة ورمزيَّتِها.

ناجي كرم

دكتور في السياحة والآثار

Spread the love