الطريق إلى الرضا والسعادة

جعلت العولمة آفاقنا تتّسع، وكلّنا يتوق لعَيشِ حياةٍ سعيدةٍ وذات مغزى، لكنّ التحديّات كثيرة. من هنا جاء هذا العنوان “الطريق إلى الرضا والسعادة”. فالطريقُ هو دربٌ، هو مسارٌ، هو مسيرةٌ مُرادُها إيصالنا لهدفٍ معيّن، لكنّنا، ومع شديد الأسف، نشعرُ اليوم لكأنّ الحياةَ تنسابُ كالمياه من بين أصابعنا، كأنّنا ضَلَلْنا وِجْهَتنا وتُهْنا في متاهاتٍ عديدة. فأيُّ طريقٍ هذه هي التي تساعدُنا حتّى نُدركَ كيف نسلُكُ رحلَتنا الوجوديّة فنَنْعَمَ بحياتنا ونقطفَ معناها؟

الدكتور عامر الحافي

ردّ الدكتور عامر الحافي، وهو أستاذ في قسم أصول الدين، كليّة الشريعة، جامعة آل البيت الأردنيّة، إثرَ مقابلةٍ معه على هذا السؤال واضعًا محبّةَ الله والإنسان محورًا لحياتنا، فقال:
“كيف نتكلّمُ من إنسانٍ إلى إنسان، ومن قلبٍ إلى قلب؟ كيف نتحدّثُ بلا جدرانٍ، وبلا تكلُّفٍ، وبلا قيودٍ، وبلا خوف؟ لقد خرجنا من هويَّتِنا الإنسانيّة ووقَعْنا في فخِّ الهويّات الفرعيّة الضيّقة التي أَنْسَتْنا أنّنا قبلَ كلِّ شيءٍ بشر. لقد خسرنا هذا الشعور الإنسانيّ الواسع.
يقول الشاعر أبو العتاهية:
“النـاسُ مِـن جِهَـةِ التِـمثالِ اَكفاءُ أَبــــــوهُـــــمُ آدَمُ وَالأُمُّ حَـــــوّاءُ
فَـإِن يَـكُـن لَهُـمُ مِـن أَصـلِهِـم شَـرَفٌ يُــفـاخِـرونَ بِهِ فَـالطـيـنُ وَالمـاءُ”
هذا هو الإنسان الذي يجبُ ألاّ ننساه، ولا ننسى هذا الأصل المشترك. دعونا نتذكّر هذه الحقيقة، فنحنُ قبل كلِّ شيءٍ بشر، ولنا نفسُ الألم، ونفسُ المعاناة، نتألّم ونحزن، نموت ونضحك، نرجو ونأمل. دعونا لا نغرقُ في أطرافٍ وفي جُزَيْئاتٍ بعيدةٍ عن هذا الواقع.
ألحياةُ رحلة، والطريقُ لا ينتهي، وفيه محطّاتٌ صعبةٌ وسهلة. يقول المسلم كلَّ يوم “إهْدِنا الصراطَ المستقيم”. إهدِنا طُرُقَكَ يا الله، عَرِّفنا طُرُقَك، وبالتالي إنّ البحثَ عن الطريق هو بحثٌ مستمرّ، علينا بالتالي أن نبحثَ كلَّ يومٍ عن هذا الطريق.
إنّ الإنسانَ هو مرآةٌ تجلو صورةَ الله، كلّما نظّفتَ مرآتَكَ كلّما عكستَ صورةَ الله فيها. على قدر ما تكتشف صورًا لله في هذا العالم، على قدر ما تعرف الله، لأنّك تراهُ في كلّ صورة. لكنّنا، ومع الأسف، أصبحنا عاجزين عن رؤية الله في صورة الإنسان. لا نستطيعُ أن نرى اللهَ إلاّ في صورةٍ واحدة، هي تلك التي نرسمُها نحن بأيدينا. إنّ محبّةَ الله ومحبّة الإنسان شيءٌ واحد”.

عبّر هنا الدكتور عامر عن استغرابه حيال إمكانيّة مَعرفَتِنا للّه من خلال الورود الحمراء والصخور الصمّاء والأشجار الخضراء، وعدم مَعرفَتِنا إيّاه في الإنسان، إذ قال: “لماذا لا ترى صورةَ الله في الإنسان؟ تستطيع أن ترى إبداعَ الله في الكون وفي الألوان، ولا تستطيع أن تراه في هذا الإنسان؟ هناك شيءٌ خطأ! تقولُ سبحانَ الله عندما تنظرُ إلى الورود والطيور، ولا تقول سبحانَ الله عندما تنظرُ إلى راهبٍ في جبلٍ يتعبَّدُ اللهَ في الهند مثلاً، أو في راهبةٍ قد نَدَرَتْ حياتَها لله؟ إن كنتَ عاجزًا أن تُحبَّ الإنسانَ الذي تراه وهو من لونِكَ وشكلِكَ، ويُشبهُكَ في ألمِكَ وحياتِكَ، إذ إنّه من نفسِ طينَتِكَ، أي أخوكَ، فهل بمقدورِكَ أن تُحبَّ سائرَ المخلوقات؟ مستحيل! فإذًا من لا يُحبُّ الإنسان لا يُمكنُه أن يحبَّ الله. طريقُ الله ومحبّةُ الله تبدأ من محبّة الإنسان، محبّة القريب. وجاء في الإنجيل أنّه من لا يُحبُّ أخاه الذي يراه لا يقدرُ أن يُحبَّ اللهَ الذي لا يراه. أعظمُ وَصيّتَيْن هما محبّة الله ومحبّة القريب.
إنّ العبادةَ هي غايةُ المحبّة. بعضُ الناس تعتقدُ أنّ العبادةَ هي طقوس، أو كم جزء قرأت في اليوم، أو كم ركعة صلّيْت، أو كم من الأيّام صُمت.. لا… بل، مثلما يقول أحمد شوقي، الشاعرُ المصريّ:
وَيَقولُ تَكادُ تُجَنُّ بِهِ فَأَقولُ وَأوشِكُ أَعبُدُهُ
مَولايَ وَروحي في يَدِهِ قَد ضَيَّعَها سَلِمَت يَدُهُ
إنّ طريقَ محبّةِ الله هي من خلال خلقِ الله. ما تقدِّمُهُ للإنسان هو طريقُكَ لمحبَّتِكَ، فلا تدَّعي بأنَّكَ تحبُّ اللهَ وأنتَ لا تُحبُّ الإنسانَ ولا تُحسِن للمخلوقات. والمحبَّةُ الأعمق والأصعب هي المحبّةُ التي ترتقي فوق الطوائف والأعراق والعناوين، وهي التي نحن بحاجةٍ أن نفهَمَها اليوم”.

أمّا عن الرضا فقال: ” الإيمانُ هو الأمل، إذا فقدنا الأمل في أن نسترجعَ وحدتَنا البشريّة، فإيمانُنا غيرُ صحيح. إذا فقدنا الأمل في أن نعودَ إلى الله جميعًا، فإيمانُنا غيرُ صحيح.
يقول عمر الخيّام: “إن تُفْصَلُ القطرةُ من بَحرِها ففي مداهُ مُنتهى أمرِها”. في مداه، هو! أين أنتَ إن لم تكن جُزءًا من هذا المحيط الواحد. هذه القطرةُ المتمرّدة على وحدة المحيط، هذه القطرة المجنونة التي تظنُّ بأنّها المحيط، ما أغباها! عُدْ لإكتشاف حقيقتِكَ الإنسانيّة الواحدة. لذا أوّلُ خطوةٍ في الطريق إسمُها التوبة، والتوبةُ هي الرجوع. إعلَمْ بأنّ أعلى مقامٍ للعابدين والسائرين والباحثين في الطريق إسمُهُ الرضا، فقد “رضيَ الله عنهم”.
“وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ”، الأعظم هو رضوان الله!
لا تأخُذ الهديّةَ من أبيك وأمِّكَ وتنسى أنّ الذي في قلب والدِكَ هو أعظمُ بكثيرٍ من الهديّة التي أعطاكَ إيّاها. للأسفِ صرنا نعبُدُ الجنّة دون أن نتلمَّسَ محبّةَ الله في عطيّته. ليسَ أكبر من رضوانِ الله ومحبّة الله.
من عَبَدَ اللهَ طمعًا بجنّتِهِ وخوفًا من ناره، فتلكَ عبادةُ التجّار، ومن عبدَ الله مَحبّةً له، فتلكَ عبادةُ الأحرار (علي بن أبي طالب).
وفي هذا المقام قالت رابعة العدوية: “أللّهُمَّ، إن عبدتُكَ خوفًا من نارِكَ فأَدْخِلْني فيها، وإن عبدتُكَ طمعًا في جنَّتِكَ فاحْرِمْني منها، ما عبدتُكَ إلاّ لذاتِكَ”. غايتُكَ هي الله لأنّ مصدرَكَ هو الله، لأنّ وجودَكَ هو الله. هو
المحبوبُ الأوّل، هو الحقيقةُ التي ليس وراءها حقيقة. لا يُمكنُ أن تكونَ سعيدًا بالمعنى الحقيقيّ دون أن تكون راضيًا عمّا أرادَهُ اللهُ لكَ، دون أن ترضى بما قسمَ اللهُ لكَ، ودون أن تكون راضيًا عن الآخرين، وتكون لديك رحمةٌ تجاهَ الإنسان والكائنات الأخرى. إذًا، إنّ السعادةَ هي عندما تشعر بأنّ كلَّ شيءٍ في هذا الكون هو أخٌ لك في الوجود، وقد تحدَّثَ عن ذلك القدّيس فرنسيس الأسّيزيّ: هي الأخوّة الوجوديّة”.

وختم مقدّمًا مفتاحًا لباب السعادة الحقيقيّة إذ قال:
“هذا هو مفتاح السعادة. ألسعادةُ ليست تلك العابرة، ليست في أن نمتلكَ الأشياء. إنّ السعادة هي الرضا والفرح الروحيّ العميق. فالسعادةُ الماديّة تُضعفُ الإنسان حتّى تقضيَ عليه، لأنّها سوف تجعله هشًّا، فتصبح الحياة لديه دون معنى. فأنتَ حينما تبدأ بفقدان المال والصحّة والبيوت، حينما تبدأ بفقدان الأشياء، تفقد معنى الحياة، وتبدأ عندك عمليّةُ الإنهيار، لأنّك لم تُدرِكْ معنى السعادة والتي هي، وفي جوهر حقيقتها، سعادةُ الروح”.

 

إعداد ريما السيقلي

Spread the love