الدخول في الصحراء
مسيرة زمن الصوم هي مسيرةٌ تتبعُ مسيرة يسوع الذي اعتزل في بداية رسالته لمدّة أربعين يومًا للصلاة والصوم، وجاء الشيطان يُجرّبه في الصحراء. ماذا تعني روحيًّا الصحراء لنا جميعًا ؟ حتّى نحن الذين نعيش في المدن؟ لِنتخيَّل أنّنا نعيش في الصحراء. أوّلُ إحساسٍ نشعر به هو أنّنا نجدُ أنفسَنا محاطين بصمتٍ كبير. لا ضوضاء، فقط هزيزُ الريح وصوتُ أنفاسِنا. إنّ الصحراء هي كلّ كلامٍ لإعطاء المجال للكلمة، لكلمةٍ أخرى هي كلمة الله التي تداعب قلوبنا كالنسيم اللطيف. الصحراء هي مكان الكلمة، كلمة الله. في الصحراء نجد العلاقة الحميمة مع الله، مع كلمته. لقد علّمنا يسوع كيف نبحث عن الآب الذي يُكلّمنا في الصمت. ليس من السهل أن نعيشَ الصمت في القلب، لأنّنا نحاولُ دائمًا التحدّث قليلاً وأن نكونَ مع الآخرين.
زمانُ الصوم الأربعين هو الوقت المناسب لإعطاء المجال لكلمة الله. هو الوقت لإغلاق التلفاز وترك الهاتف النقّال للإرتباط بالإنجيل. ألصومُ الكبير هو الصحراء، هو وقت التخلّي عن الكلام بلا فائدة وعن الثرثرة والشائعات والقيل والقال. هو الوقتُ للحديث المباشر، البسيط مع الربّ يسوع. نحن نعيشُ في بيئةٍ ملوّثةٍ بعنفٍ كلاميٍّ زائد، وبالكثير من الكلمات المُسيئة والضارّة التي تُضخّمها شبكاتُ التواصل.
نحن مغمورون بالكلمات الفارغة والدعايات والرسائل الخاطئة وقد اعْتَدْنا سماعَ كلّ شيء عن كل الناس… وبصعوبةٍ نميّزُ صوت الله الذي يكلّمنا، صوت الضمير وصوت الخير. يُنادينا يسوع إلى الصحراء ويدعونا لنصغِيَ إلى ما هو مهمٌّ وضروري. نحنُ بحاجةٍ إلى كلمة الله، بحاجةٍ إلى التكلّم مع الله، نحن بحاجةٍ أن نصلّي. لأنّه فقط في حضرة الله تظهرُ رغباتُ القلب ويسقطُ نفاقُ النفس.
لنحاولْ التفكير في الصحراء مرّةً أخرى. ألصحراءُ هي مكانُ الأمور الجوهريّة. لننظُرْ إلى حياتنا، كم من الأشياء العديمة الفائدة تحيطُ بنا. نسعى وراء آلاف الأشياء التي تبدو ضروريّة، وهي في الواقع ليست كذلك. خيرٌ لنا أن نتحرَّرَ من كلّ هذه الأمور الزائدة لنُعيدَ اكتشافَ ما هو مُهمّ. لنَرَ وجوهَ الذين حولنا.
وأخيرًا الصحراء هي مكان العزلة. حتّى اليوم وبالقرب منّا هناك العديدُ من الصحاري. إنّهم أناسٌ وحيدون ومتروكون. كم من الفقراء والمسنّين يعيشون إلى جانبنا وفي صمت، دون ضجّة، مُهَمّشين ومنبوزين. هؤلاء الذين أُسْكِتوا يطلبون بصَمْتِهم مساعدتنا. هناك العديد من النظرات الصامتة تطلب مساعدتنا. ألطريق في الصحراء هي طريقُ المحبّة نحو المُسْتَضعفين. ألصلاة والصوم وأعمال الرحمة، هذه هي طريقُ الصحراء في الزمن الأربعينيّ.
في الصحراء يفتحُ الله الطريق الذي يقودنا من الموت إلى الحياة. ندخلُ الصحراء مع يسوع وسنخرجُ منها لنحتفلَ بالفصح ونختبرَ قدرةَ حُبِّ الله الذي يُجدّد الحياة.
قداسة البابا فرنسيس
Spread the love