كيف نستطيعُ الهرب من الناس، ونحن مدعوّون للعيش بينهم؟ لقد استعمل الربّ، ومن دون شكّ، أسلوبًا خاصًّا لِيُعَلّمَنا محبّة القريب ونحن في العالم، من دون أن نكونَ من العالم. ولقد أفهمنا بسرعة، أنّه من الممكن أن نُحبَّ القريب من دون الوقوع في العاطفيّة، أو في أخطاءٍ أخرى، لأنّ اللهَ بإمكانه أن يُحبَّ فينا بواسطة المحبّة. كنّا نُحبُّ المسيحَ في الآخَر، في الآخرين، ولكن، في الوقت عينه، كان المسيحُ فينا هو الذي يُحبّ.
فما هي المحبّة؟ “إنّ محبّةَ الله أُفيضَتْ في قلوبنا بالروح القُدُس الذي وُهِبَ لنا” (روما ٥،٥). فالمحبّة إذًا هي مشاركةٌ بالحبّ الإلهيّ. هذه المحبّةُ عفويّة، دائمةُ التجدّد، تَبْتَدِعُ دائمًا أساليبَ مختلفة كي تُظهِرَ نفسها، لا تخضعُ لقوانِينَ بل تَسْتَنْبِطُ حلولاً غير منتظرة. يؤكّد بولس قائلاً: “أُسْلُكوا سبيلَ الروح…” (غلا ٥،۱٦).
ومن خصائص المحبّة أيضًا التجرّد والمبادرة والشموليّة وبذل الذات حتّى التضحية. ولكي يُحبّ المسيحيّ، عليه أن يفعلَ كما فَعَلَ الله، أي ألاّ ينتظرَ أن يُحبَّهُ الآخرون، بل أن يكونَ “المُبادرَ” بالمحبّة. وبما أنّ المسيحيَّ لا يستطيع أن يبادرَ بمحبّة الله، لأنّ اللهَ هو المُبادر دائمًا بالمحبّة، فهو يعيشُ ذلك مع القريب.
نستطيع إذًا أن نتخطّى الحدودَ الطبيعيّة، ونُحبَّ أعداءنا، ونبذلَ حياتَنا من أجل إخوتنا، لأنّ محبّةَ القريب هي مشاركةٌ بالحُبّ الإلهيّ. وإذا كانت محبّةُ القريب نصيبًا وُهِبَ لنا من الحُبّ الإلهيّ، فإنّها تتميّزُ عن الحُبّ البشريّ. وفي الواقع، لا تنظُرُ المحبّةُ المسيحيّةُ إلى البشر انطلاقًا من طبيعتهم، بل من محبّة الله لهم، لأنّها ترى فيهم أبناءَ الله وصورةً له.
وكيف تظهر محبّة القريب؟
لنكتشف معًا الآن مظاهر محبّة القريب .
تشرحُ ذلك صفحةٌ من كتابات خوري آرس. تبدو وكأنّها صدى لنشيد بولس في محبّة القريب. “تقولون لي، كيف نعرف أنّنا نملكُ هذه الفضيلة الجميلة والثمينة التي هي محبّة القريب، الفضيلة التي لولاها لكان دينُنا وهمًا؟… من يحبُّ قريبَهُ لا يكون متكبّرًا، لا يُحبّ السيطرة على سواه، ولا تسمعونه أبدًا يلومهم على سلوكهم، ولا يُحبُّ أبدًا التكلُّمَ عن أفعالهم. مَنْ يُحبُّ قريبَهُ لا يتفحّصُ نوايا الآخرين…، لا يظنُّ أبدًا أنّه يُحْسِنُ العمل أفضل منهم، ولا يتعالى على جاره، بل على العكس، هو يظنُّ أنّ غيرَهُ يُحْسِنُ العملَ دائمًا أفضل، هو لا يغضبُ إذا فُضِّلَ الغريبُ عليه، لأنّه يعتقد أنّه يستحقُّ مِقدارًا أكبر من الإحتقار، من يحبّ قريبه، يتجنّب قدر المستطاع تسبيبَ الألم للآخرين، لأنّ محبّةَ القريب رداءٌ ملوكيٌّ يعرف جيّدًا كيف يغطّي عيوبَ الأخوة، ولا يتركُ أبدًا مجالا للإعتقاد بأنّه أفضل منهم”.
ويرى القدّيس منصور دي بول أنّ عَيْشَ محبّة القريب قد يقتضي أن “نكون واحدًا معه. وهذه علامةٌ تَمَيَّزَ بها “عمل مريم” منذ السنوات الأولى لِنَشْأَتِه. أن “نكون واحدًا”، يعني أن نُفرِغَ ذاتنا كي نفهمَ القريب ونَقْبَلَه، ونَقِفَ بجانبه.
ويضيف: “…لا يُمكنُكَ رؤية القريب متألّمًا من دون أن تتألّمَ معه، لا يمكنُ رؤيَتَهُ باكيًا من دون البكاء معه. ومن أفعال المحبّة، تعانُق القلوب مع بعضها البعض، والشعور بما تشعر، بعيدًا عن تلك التي لا تشارك المُعَذَّبين عذاباتِهِم أو الفقراء آلامهم. كم كان ابنُ اللهِ حنونًا! لقد دُعِيَ لرُؤيَةِ لِعازَر، فذهب. وقفتْ أختُهُ مريم واقتربتْ منه باكية، فَتَبِعَها اليهود باكين أيضًا. ماذا فعل ربُّنا؟ بكى معهم، إنّه عظيمُ العطف وكثيرُ الشفقة. وهذا الحنان هو الذي جاء به من السماء. نحن أيضًا يجب أن نعطفَ مثله على قريبنا المُعَذَّب ونشارِكَهُ أَلَمَهُ. كم كنتَ، أيّها القدّيس بولس، حسّاسًا في هذا الأمر. أيّها المخلّص، يا من مَلَأتَ هذا الرسول من روحك ومن حنانك، إجعلْنا نقولُ مثله: “هل من مريضٍ لا أمرضُ معه؟”. ماذا! أَأَكونُ مسيحيًّا، وأرى قريبًا متألّمًا، ولا أتعذّبُ معه، أو أمرضُ معه! لا! وإلّا، فأنا بلا محبّة ومسيحيٌّ بالظاهر وحسب…”
وإذا سبّب لنا القريبُ أيَّ أذى، يجب ألاّ نَرُدَّ على الشرّ بالشرّ، بل أن نغلُبَ الشرَّ بالخير. علينا أن نفعلَ الخيرَ للجميع، بخاصّةٍ الذين يُشاطِروننا إيمانَنا. فإذا تصرَّفْنا بهذه الطريقة، صار تبادُلُ المحبّة أكثرَ سهولة، وصارت هذه المحبّة المتبادلة ذات فائدةٍ لإخوتنا غير المؤمنين، لأنّها شهادةٌ لله.
الإنسان غايةُ محبّة الله
قد يُفكّر البعضُ أنّ الإنسانَ في المسيحيّة هو وسيلةٌ لمحبّة الله. ليس الأمرُ على هذا النحو.
يقولُ اللاهوتيّ إميل مَرْشْ: “الإنسانُ بذاته هو غاية، وقيمةٌ مطلقةٌ ونهائيّة. منذ أن صارَ الكلمة جسدًا، وصار واحدًا معنا، لم يعد التفتيش عن الله في السماء البعيدة، بل في داخل الإنسان، وهو فيه…”
يقول الدستور الراعويّ “فرح ورجاء”: بتجسُّدِهِ إتَّحَدَ إبنُ الله نوعًا ما بكلّ إنسان”.
والآن لِنَرَ ما يؤولُ إليه مَنْ يعيشُ المحبّة. القدّيسةُ كاترين السيانيّة تشرحُ ذلك وهي تنقلُ إلينا ما قاله “كلمة المحبّة العذب”: “أَبْعَدُ من الجمال الذي وَهَبْتُهُ للنفس عندما خَلَقْتُها على صورتي ومثالي، أُنْظُري إلى الذين كَسَوْتُهُم بحُلّةِ العُرْس أي بالمحبّة. إنَّ هؤلاءَ هُمْ واحدٌ معي بالمحبّة… وإنْ سألْتِني من هم هؤلاء، أَجَبْتُكِ… إنّهم أنا آخر…” فالمحبّةُ إذا تُؤلِّهُنا.
كيارا لوبيك