من وإلى والدي
تَنَهَّدْتَ بقوّةٍ فَذُهِلْتُ، وما عرفتُ إنْ كنتَ قد اسْتَفَقْتَ مجدّدًا… أخرجوني من الغرفةِ وأغلقوا الباب… فوقفتُ أنتظر، مشدوهةً عاجزةً عن التفكير … مجرّدُ ثوانٍ خاطفة. ما احتاجوا لمزيدٍ منها. فتحوا الباب ولم يتلفّظوا بكلمة… وجدتُ نفسي أطرح سؤالاً كان مُحتّمًا جوابه، “شو صار؟”… كيف لم أُدْرِكْ أنّ بين إقفال الباب وفتحِهِ ينطوي عمرٌ بأكمله، كيف لم أستوعِبْ أنّ لحظاتٍ وجيزة، بل هنيهات، تكفي حتّى تجعلَكَ تنتظر خلف السكّة الحديديّة المقابلة، وترى نفسك تسيرُ في وجهةٍ غير وجهتك… ومن ثمّ تَتْبَعُ كلماتُ التعزية التي تُنْبِؤُكَ بما تخالُ سماعه: “الله يرحمه”…
هي دائمًا صدمةٌ أن تعرفَ بأنّ من تُحبّ ترك هذه الدنيا. ولكن، وإنْ في جَوْفِ الهلع والحزن القاتل، يأتي الإيمان لِيَشُدَّ وَسْطَكَ ويجعلُكَ تنظرُ بعَيْنَي الرجاء والحبّ الإلهيّ… ليس لأنّ لا حلَّ آخر لديك، ولكن، لأنّ شهادتك تأتي بما أسَّسْتَ عليه حياتك.
وإنْ كانت الغصّةُ في حينه قد شدَّتْ أوتار حلقي وشَلَّ الألمُ تفكيري، إرتفعَتْ صلاتي لتقولَ لك: أبي شكرًا لحياتك، لِحُبّك، لِضِحْكَتِكَ يا بابا نويل ويا صاحب القلب الكبير…
لم أشأ أن أدعَكَ لحظةً وهم يُهيّئون جُثمانَكَ ويدهنوه بالعطر والطيب… أمسكتُ بيدِكَ لأُعَبّرَ لك عن حبّي وامْتِناني لحياةٍ كاملة، ورحتُ أصلّي بحرارة إيماني وإيمانك. كان الممّرضُ يُصغي هو أيضًا ولربّما جعله ذلك الجوّ السماويّ يبدأ بالتحدُّث عن خبرته الشخصيّة مع الموت. هذا الأخ الذي كان غريبًا وقريبًا إلى حدٍّ سواء صار في تلك اللحظة أخي الذي يحتاج إلى إصغائي… هو الحبُّ صانعُ المعجزات، كانت تكفي التفاتةٌ منّي حتّى يشعَّ ويكبُرَ فيّ الإيمان والرجاء والمحبّة، ويتحوَّلَ ألمي إلى أنشودةٍ تُسبّحُ الربَّ وتَتَهَلَّلُ بها السماء…
كنت أشعر بحضورك أبي حيًّا وما من تفسيرٍ منطقيّ لذلك، ولكن، ألا يتخطّى الحبُّ كلَّ منطقٍ ويُقيمُ الإيمانُ الأمواتَ من قبورهم؟ ولا زلتُ أختبرُ حضورَكَ الرقيق الدافىء في أعماق نفسي… أَوَلَمْ يَقُل القدّيس أغسطينوس: “الموتُ لا شيء، إنّما قد انتقلتُ إلى الجهة الأخرى وحسب(…) الخيطُ لم ينقطع. أتراني أصبحتُ خارج تفكيركم لأنّي أَبْعَدُ من مُتناوَلِ نظرِكُم؟ لا، لستُ بعيدًا عنكم، أنا في الجهة المقابلة من الطريق”.
لا أستطيعُ أن أكبحَ لحظاتِ الشوق التي تُلْهِبُ قلبي، لكنّي أُدرِكُ بروحي ونفسي حُضورَكَ، فأصغي لكأنّكَ نغمةٌ عذبةٌ تُرافقُ أوقاتي وتبُاركُ خطاي…
ويوم غادرتنا أبي بجسدك لتذهبَ إلى مثواك الأخير كان يومًا مميّزًا لأنّك سَنَحْتَ لكلّ مَن كان في وداعك أن يقفَ في حضرةِ الله، في خشوعٍ وتأمُّلٍ عَميقَيْن.
لقد غاب وجهُك الضحوك وتلاشَتْ بسمتُكَ المُضيئة، ولكنّهما تركا في أذهاننا ونفوسنا بصمةً أبديّة، وخلّفا في فؤاد كلٍّ مِنّا تَوْقًا إلى السماء وسُكّانها ومحبَّةً للأرضِ وأهلِها… كيف لا؟ وقلبُكَ كان بوسع الكون، واسمُكَ يَنْضَحُ بما في الكأس من عواطِفَ ومشاعِرَ صادقة، فكان اسمُكَ إسمًا على مُسمّى…
حضر الضبّاط ومُمَثّلو الأمن العام لِعُرْفانهم بالجميل تجاه كلَّ ما قدَّمتَ للمؤسّسة من تضحيات، وولاءٍ وبذلٍ، وكلُّكَ إيمانٌ بلبنان بلد الجمال والحبّ والثقافة… نُبْلُكَ وحُسْنُ سيرتِكَ، أخلاقُكَ الرفيعة وإخلاصُكَ لوطنك جعلوا منك رائدًا وقُدْوَةً لمن أرادَ أن يسيرَ خُطاك ويلتزمَ في السلك العسكريّ!
أمّا حكمتُكَ ونظرتُكَ الصائبة فكانتا ثمرةَ ما ضَحَّيْتَ وشَقيتَ لِتُؤَمِّنَ حياةً كريمةً لأهلك، وتُساهِمَ في تعليم إخوتك ومن ثمّ أولادك… كنتَ باسلاً لا تهابُ إلاّ خالقك وحنونًا برقّة النسيم وعطر الورود…
من عرفكَ أدركَ أنّك ما فرّقْتَ بين الناس وما رَدَدْتَ خائبًا من أتى يسألُكَ عونًا أو يَسْتَنْجِدُ بك… لكأنّ قلبَكَ شراعٌ يستخدم قوّةَ العطاءِ والحُبِّ في إبحار سفينة الحياة…
لكنّ هذا القلب أبي لم يتوقّف إذْ أنّه ينبضُ فينا، يحرسُنا ويُرافِقُنا في أيّامنا، يُوَجّهُ خُطانا ويُلَبّي اسْتِغاثاتِنا، ويُهَدْهِدُ أحلامَنا…
واليوم في يوم وداعك ها هو يلفُّ من حَضَرَ برجاءٍ يفوحُ بعبيرِ السماء وطيبةِ الأرض…
ومن غنى حياتك كلماتك في الآونة الأخيرة:
“إن اللهَ هو الذي يُرْشِدُنا، ولْنَدَعْهُ يُوَجّهُنا كي نكونَ مخلوقاتٍ سعيدة. نشكرُ اللهَ على إعطائنا فضيلةَ المحبّة، محبّة الله كوصيّةٍ أولى، والثانية بأن نُحبَّ بعضنا بعضا. ويسوع أعطانا مِثالاً في السامريّ الصالح. اللهُ هو أبٌ لنا وحبُّه عظيم. نعم إنّ الحياةَ مليئةٌ بالمشاقّات، ولكن يكفي أن نفكّرَ بأنّ نهايةَ المطاف هي السماء فتمتلىء قلوبُنا فرحًا. إنّ الحياة الحقيقيّة هي في السماء، وكم هو جميلٌ أن نكون مع يسوع ومع مريم”.
فهنيئًا لك يا والدي الحبيب ويا شَيْخنا الجليل بحياة السماء…
ولن أنسى أن أشكرَكَ بلسان قُرّائِكَ وبإسْمِ أسرة تحرير “المدينة الجديدة” على كلّ شبكات الكلمات المتقاطعة التي صَنَعْتَها من أجلنا جميعًا. وكم تأثرتُ بوفائِكَ ونِضالِكَ ومُثابَرَتِكَ كلّما رأيتُكَ وأنتَ مُنْهَكُ القِوى تعملُ جادًّا وتعطي ما بوسعك لِتُحَضّرَ مسبقًا شبكاتك… علّمتَني منذ نعومة أظافري أن أقومَ بأمانةٍ وعلى أكمل وجه بكلّ ما يُوكَلُ به إليّ، وجعلتني أُحبُّ اللغةَ العربيّة وأعشقُ معجماتها، فباتَ القلمُ في يدي يسيلُ شِعْرًا وأدبًا… “بنت بيّي”! شكرًا بابا…
ريما السيقلي