في هذا الوقت الصعب تعجز الكلمات عن وصف ما نُعانيه…
كنت قلقةً جدًّا على كلّ من يعانون بسبب الزلزال الذي حدث، وعلى الرغم من أنّي وعائلتي لم نتعرّض لأيّ مكروه، إلاّ أنّني لم أستطع ألاّ أفكّر بغيري ممّن يتألّمون. رحت أجمع بعض الأغراض والألبسة بحماسٍ كبير، لكنّي، ورغم ذلك، كنتُ أشعر بداخلي وبإلحاح بضرورة القيام بخطوةٍ أكبر. دافعٌ قويٌّ جعلني أضع كلَّ ما أمتلك من مال ٍجانبًا. كان المبلغ بسيطًا جدًّا، إلاّ أنّني كنت قد ادّخرته لأشتريَ بعض الأشياء التي تلزمني. لم أتردّد، ولم أفكّر بالأمر كثيرًا، فما كنت أبغي شيًئا لي بعد كلّ الذي حصل، وكانت نفسي مطمئنّةً وسعيدةً لهذا العطاء.
ما هو شعوري؟ حبٌّ كبيرٌ يسكن قلبي وكلماتٌ بسيطةٌ تراودني: العطاء… الصلاة… والكثير الكثير من الحبّ لكلّ إنسانٍ متألّم.
ليزا – حما
إسمي طوني وعمري ١٩ عامًا. أنا شابٌّ أسعى مع شباب من أجل عالمٍ متّحد في مجموعة عمل مريم أن أبنيَ عالم سلامٍ وأخوّة.
فورَ حدوث الزلزال سارعتُ للإطمئنان على أفراد عائلتي في المنزل. ومن ثمَّ، أخلَيْنا بيوتنا التي كانت قد تصدّعت جرّاء الحرب وأصبحت غير صالحةٍ للسكن.
نزلنا إلى الطرقات فجر يوم الإثنين والناسُ في حالة ذعرٍ وهلعٍ في كلّ مكان.
إتّخذتُ قراري، لن أقفَ عاجزًا! تطوّعت لمساعدة الأشخاص في الأماكن الأكثر خطرًا وتضرّرًا، حيث كانت المنازل تنهار واحدةً تلو الأخرى وفي كلّ لحظة. ما بين المنزل والآخر رمشة عين…
كنّا نساعد بتوزيع الطعام واللباس الذي تبرّع به الناس للمنكوبين. فالجوّ أكثر من بارد… ومن أضحوا في العراء يموتون من شدّة الصقيع.
أربعة أيّامٍ مرّت ووجدت نفسي مرهقًا من كثرة التعب وعبء الهموم التي تُعيي كاهلي، لكنّني لم أستسلم.
كنت بين مجموعةٍ من الأطفال أقدّم لهم طعامًا ولباسًا، وإذ بصبيٍّ صغيرٍ يتقدّم نحوي، وكان يرتدي جينزًا صَغُر عليه، وكنزةً رقيقةً جدًّا ومهترئة، في حين كانت درجة الحرارة ذاك اليوم قد تدنّت إلى ثلاث درجات. نظر إليّ وقال: “عمّو شو رح توزّعولنا اليوم؟” فقلت له: “أكلٌ ولبسٌ لحتّى تتدفّوا!”
وللحظةٍ لمعت عيناه فرحًا وراح يضحك محدّقًا إليّ قائلاً: “عمّو بتعرف إنو أنا من سنتين ماني شاري كنزة جديدة”.!
صُعقتُ في حينها وعجزتُ عن التفوّه ولو بكلمةٍ واحدة… أدمعت عيناي وبقيت صامتًا مشدوهًا.
بعد أن انتهينا من التوزيع رحت أنظر إلى ذلك الصبيّ لا أستطيع أن أقاوم التمعُّنَ في وجهه، والفرحة تلمع في عيونه وهو يرتدي كنزته الجديدة. كنزة صوفٍ بحياكة سميكة، كنزةٌ لطالما حلم بها، لأكثر من سنتين، كنزةٌ استطاعت أن تكسيَ عريانًا في أحلك الأيّام، كنزةٌ منحت الدفء لطفلٍ في يوم بردٍ قارس…
لو كنّا نملك مال الدنيا كلّه، لن نشعر بفرحٍ كالذي نشعر به لحظة العطاء، فرحٌ يرافقني ويجعلني أتخطّى ولو للحظاتٍ الكارثة التي حلّت بنا.
أيقنتُ هذه الحقيقة وهي أنّه في كلّ مرّةٍ تسنحُ لي الفرصة أن أمدَّ يدَ المساعدة لن أقصّر البتّة. أن نحبَّ بعضنا بعضًا ممكنٌ الآن واليوم لأنّه من المحتمل أن يتأخّر الغد ولا يأتي أبدًا…
طوني -حلب
شعرت في ذلك اليوم بحدوث زلزال وكان يوم الجمعة. تأكّدت من زملائي يوم الأحد أنّ ما شعرت به كان حقيقة، ورحنا نتحادث بما يصيب البشريّة اليوم.
في فترة بعد الظهر لم أستطع الخروج من منزلي لشدّة البرد. رحت أتابع برامج قناة نورسات طوال الوقت. كنت أشعر بالرغبة للإستماع إلى الترانيم مع أفراد عائلتي.
وحدث ما حدث في تلك الليلة: الهزّة الأرضيّة العنيفة.
ركضت إلى غرفة أهلي وأنا مرتعبة، وكنت أنا وأمّي نبكي، فراح أبي يقول لنا لا تخافوا، صلّوا ولا تخافوا… أمّا الناس في المبنى فكانوا يهرعون في كلّ اتّجاه ويبكون..
نزلنا إلى الطريق عند الدوّار القريب من بيتنا، وكان المطر يهطل بغزارة، والناس في تضعضعٍ وتشتُّت في الشارع… الأولاد يبكون والأهل مرعوبون…
بقينا لمدّة ساعتين تحت المطر والسماء حالكة السواد. حاولنا العودة لبيوتنا حتّى نأخذ بعض الأغراض. تناولت “المسبحة الورديّة” ولا غير، فوحدها تعطيني السلام الداخليّ…
أسبوعٌ مضى ونحن في صالة الكنيسة نحاول أن نخدم قدر الإمكان مئات الأشخاص من حولنا.
كم كان الله معنا… وفي كلّ لحظة!
الله رحوم، لكنّ قلوب البشر هي التي تقسو على بعضها البعض. فليكن ما نقاسيه بداية رحلة سلامٍ ومحبّةٍ للنفوس، وإيمانٍ بالله الذي هو رجاؤنا وأملُنا.
نوشيك – حلب
على الرغم من الظروف القاسية التي عشناها في الحرب، لم أكن يومًا خائفةً من شيء، لأنّني كنت أعرف أنّ من يقوم بكلّ هذه الأمور البشعة هم البشر أنفسهم، ولابدّ أن يأتيَ يومٌ يتوبون ويجدون حلاًّ وسبيلاً للمصالحة…
لكنّ لحظة الزلزال كانت مختلفة. فهلعي أشدُّ رهبةً من عشر سنوات حربٍ عانيناها: كنت أحمل ابنتي في حضني وأرى الخوف يسكن عينيها، ورأيت الخوف في عيني والدها الذي كان يحاول مداعبتها كي يشعرَها بالأمان. كان زوجي يهدّىء أيضًا من روعي، وهذا ما جعلني أفكّر بالله الآب الحنون، فإن كنّا نحن البشر نحبّ بهذا الشكل فكم بالأحرى هو؟!
من المؤكّد أنّه لن يتخلّى عنا… لا أنكر بأنّني خفت وقلقت، ولكنّني على يقينٍ بأنّه طالما سلّمت الله كلّ شيء، فنحن بأحسن حال.
ماريا – حلب
لحظة وقوع الزلزال نزلت أنا وعائلتي من البيت ووقفنا كباقي الناس في الشارع، والكلّ يصرخ مذعور. كنت أحدّق في المبنى الذي أسكن فيه وأراه على وشك الإنهيار.
تذكّرت ما قالته كيارا لوبيك، مؤسِّسة مجموعة عمل مريم، لرفيقاتها: “كلّ شيءٍ ينهار إلّا الله وحده لا يزول”. نعم، في هذه اللحظة يمكننا أن نخسر كلَّ شيء… ما من شيءٍ مضمونٌ في هذه الدنيا…
عندما استقرّ الوضعُ قليلاً عدنا للمنزل، ونظرت إلى صورة يسوع وقلت له: “ألا تكفي كلّ الأزمات التي مررنا بها، من حربٍ وتدهورٍ إقتصاديّ، الآن يأتي دورُ الزلزال؟!”.
صلّيت وطلبت من الله شيئًا واحدًا فقط وهو الحياة الأبديّة لي ولعائلتي… ثمّ قرأت تلك الآية التي تقول: “كلّما اجتمع إثنان في الأرض على طلبٍ فكان لهما”. أتت هذه الكلمات استجابةً لصلاتي.
في اليوم التالي، وعند الساعة الواحدة والنصف، حدث زلزالٌ آخر ورجعنا إلى الشارع وذهبنا لمتجر أخي، فهو آمنٌ نوعًا ما. وبما أنّه واسعٌ وكبير، دعونا كلّ من هم في الشارع ودون مأوى إلى الإحتماء فيه إلى أن تهدأ الأوضاع. في المساء صار عددُنا مئةَ شخص.
حضّرنا القهوة والشاي للجميع وأشعلنا الحطب كي نحصل على بعض الدفء في هذا البرد القارس. ساهمنا مع آخرين بإعداد السندويشات. لقد كنت أنا وعائلتي، وعلى الرغم من الصدمة والتوتر والخوف، نسعى لتلبية احتياجات الجميع والبسمةُ تعلو شفاهَنا، والروحُ الحلوة قلوبنا. قدّمنا كلّ ما لدينا، حتّى البطّانيّات التي أتينا بها من المنزل.
هو حبُّ يسوع الذي ومن فوق خشبة الصليب أحبّ حتّى النهاية، حاملاً في قلبه كلّ آلام وأوجاع البشر.
لقد مرّ أسبوعٌ مليءٌ بالخبرات الكثيرة. محبّة باقي المحافظات والبلدان غمرتنا بالإتّصالات والمساعدات والصلوات، فالوحدة مع الجميع كانت قويّةً جدًّا.
هذا الزلزال سمح لي بأن أعيش كلمة الحياة “الله يراني”. هو ينظر إلينا ساهرًا ويفتح بصائرنا حتّى نسهر بدورنا على احتياجات العالم من حولنا.
ناتالي – حلب
هي مقتطفاتٌ تعبّر عن حياة عطاء وتضحية، نابعة من قلب المأساة، وتودٌّ أن تحثّنا على التعاضد وهبة الذات والمكوث إلى جانب قريبنا، ذاك القريب
الذي نلتقي به خلال يومنا. فلا نجعلنّ الوقت يهرب منّا سدًى، بل لنصعنَّ من كلّ لحظةٍ تمرّ هديّةً يبقى أريجُها يحمل الأمل والرجاء والحبّ.
إعداد ريما السيقلي