مغامرة مؤلمة وجميلة

ولدتُ في عائلةٍ جوّها ضاغطٌ جدًّا ومليءٌ بالخلافات اليوميّة… بلغتُ سنَّ المراهقة ولم أعُدْ أتحمّل، وفقدتُ كلَّ اهتمامٍ بما تُقدّمُهُ لِيَ المدرسة… غادرتُ البيت وذهبتُ لأسكُنَ مع رفاقٍ يَهْوُونَ الموسيقى مثلي، وسرعانَ ما شكّلنا فرقةً موسيقيّةً صغيرة. كنّا نستقبلُ العديدَ من الشبّان والشابّات في دارنا، معهم دخلت المخدّرات إلى حياتنا.

في هذه الأثناء تعرّفتُ على أَنَّا وأَحْبَبْنا بعضنا، ثمّ انتقلنا للْعَيْش معًا. واكتشفتُ أنّها تتعاطى أنواعًا من المخدّرات الثقيلة والخطيرة. أردتُ أن أساعِدَها على التخلّص منها لكنّني لم أنجح، ودخلتُ أنا أيضًا في دوّامة المُخدّر. كرّرنا أكثر من مرّة محاولة العلاج للتخلّص من الإدمان لكنّنا كنّا نقعُ في فخّها من جديد، وانتهى بنا الأمر في السجن. سنحت لنا فترة السجن بالتفكير مليًّا بوضعنا، واكتشفنا أنّه من الأفضل أن نَبْتَعِدَ عن بيئتنا ومدينتنا، فقرّرنا أن نذهبَ إلى الهند، فأتعلّم العزف على آلة موسيقيّة تُدعى الطبلة، وهكذا كان.

سحرَتْنا بلادُ الهند بألوانها وموسيقاها وشعبها، ونسينا الغرب الغارق في الماديّة… عندما عُدْنا إلى بلدنا كانت الأوضاعُ مُقلِقَةً بسبب موجةِ عنفٍ سياسيٍّ لم نَعْرِفْهُ من قبل. شعرنا بضياعٍ وخوفٍ من المستقبل، إستولى علينا هذا الشعور فالْتجَأْنا إلى الهيرويين من جديد. يا لها من سقطة! سرعانَ ما قرّرنا أن نتبعَ علاجًا، لكنّ هذه المرّة كلُّ واحدٍ مِنّا على حدى.

عندما دخلتُ فترة النقاهة إقترحَ عليّ الأقرباء أن أذهبَ إلى عائلة عمّي في منطقةٍ جميلةٍ ونائية. كان عمّي وعائلته ملتزمين في جماعةٍ مسيحيّة، أمّا أنا فكنتُ أرفضُ كلَّ ما له علاقة بالمسيحيّة. لكنّني عندما تعرّفتُ عليهم زالت كلّ مخاوفي. قبلوني كما أنا، باحترامٍ ومحبّةٍ وبساطة. لم يتكلّم أحدٌ أبدًا عن ماضِيَّ. شعرتُ بحريّةٍ لم أخْتَبِرْها من قبل. غمرني دفءُ الحُبّ العائليّ الحقّ، وأُعْجِبْتُ بالتناغم التامّ بين أقوالهم وأفعالهم. ثمّ اكتشفتُ أنّ عائلاتٍ كثيرةٍ منتشرةٍ في العالم تشاركهم هذا النمط من الحياة: يؤمنون أنّ اللهَ يُحبُّ كلَّ واحدٍ منّا شخصيًّا، يتغذّون من الإنجيل. هكذا تعرّفتُ على “عمل مريم”، على مصدر هذا اللطف، هذا الصمت الحيّ والمُحْيي، هذا الإحترام، هذا الحُبّ للحكمة… لديّ قناعةٌ أنّ مريمَ العذراء هي التي عرّفتني على “عمل مريم” وأرجعتني إليها من خلاله، ورافقت خطواتي الأولى في هذه الحياة الجديدة.

عدتُ بعد فترةٍ لألتقي بآنّا التي كنتُ قد وعدتُها بالعودة. حاولتُ أن أشرحَ لها ما كنتُ أعيشُه، لكنّي استطعتُ فقط أن أقول: “لقد اكتشفتُ أمرًا جديدًا ومهمًّا جدًّا. أنا بحاجةٍ لبعض الوقت، ثقي بي”. كانت ردّةُ فِعْلِها قاسية… لم تفهم ما كان يجري وشَعَرَتْ بالخيانة…
رجعتُ إلى بيت عمّي لأنّني كنت فعلاً بحاجةٍ لأن أتعمّقَ بهذه الحياة الجديدة المُذهلة.

بعد بضعة أشهرٍ وَرَدَتْني رسالةٌ من آنّا تُعْلِمُني أنّها في السجن. في طريقي إليها صلّيتُ مسبحة الورديّة وردّدت: “إجعلني يا ربّ، أداةَ خلاصٍ لأَنَّا”. وصرتُ أزورها كلّ يومٍ وفي قلبي رجاءٌ كبير: بعد السقطة لا بُدَّ من النهوض. خرجت أنّا من السجن بعد سنة ونصف وبدأنا حياةً جديدةً معًا بمساعدة عائلتنا الجديدة ودَعْمِها، أعني “عمل مريم”. تزوّجنا كنسيًّا ورُزٍقْنا بطفلَيْن. حصلتْ آنّا على شهادة ممرّضَةٍ مِهَنِيّة. لكنّها مع الأسف تعلّقت بأحد المُمَرّضين في المستشفى، أُغْرِمَتْ به وطلبت أن ننفصل… حاولتُ جاهدًا أن أُصلِحَ الأمور من دون جدوى…

بعد سنةٍ طلبت منّي أن أهتمَّ بوَلَدَيْنا بينما تدخُلُ المستشفى لإجراء فحوصاتٍ دقيقة. أتتِ النتيجة سيّئةً للغاية. آنّا مصابة بسرطانٍ في الرِئَتَيْن والنُخاعِ الشوكيّ! بقيتُ بقُرْبِها وعُدْنا عائلة من جديد، بالرغم من الظرف المؤلم، أو ربّما بفضله إذا صحَّ القول. فترةٌ صعبةٌ لكنّها سَمَحَتْ لنا أن نُسامِحَ بعضنا ونَبْنِيَ مجدّدًا العلاقةَ بيننا، وكُلُّنا امتنانٌ للوقت القصير الذي نَمْضيه معًا، قصيرٌ لكنّه كافٍ لِنُوَدّعَ بعضنا بسلام.
إنتقلت آنّا إلى الحياة الأخرى بينما كنتُ أصلّي الورديّة بقربها، أمسكُ بِيَدِها وأُلامِسُ شعرَها… لفظَتْ آخِرَ نَفَسٍ خلال صلاة “السلام عليك يا ملكة”، وكنتُ أقول:”وأَرِني بعدَ هذا المنفى وَجْهَ ابنِكِ يسوع…”

المدينة الجديدة

Spread the love