معرفةٌ بدون تفكير

تنتشرُ ظاهرةٌ لا مثيل لها سابقًا في العالم وفي أوساطٍ مسمّاةٍ أكاديميّة وثقافيّة: معرفةٌ بلا تفكير! يلتهمُ إنسانٌ معلوماتٍ ورسائلَ من كلّ دربٍ وصوبٍ من هاتفه الخليويّ. حين تطرح سؤالًا على طفل، يفتح في اللحظة ذاتِها هاتفَهُ الخليويّ أو حاسوبَهُ ويقذف لك جوابًا… كما يقدّم أحدُهم في مؤتمرٍ محاضرةً حول موضوعٍ شائكٍ ويُتخِمُك بآراءٍ سائدةٍ من دون أن تستشفّ لحظةً واحدةً تساؤلًا أو مساهمةً شخصيّةً أو التزامًا منه من خلال تفكّر.
هل أصبحنا في عجزٍ عن التفكير؟
تطرحُ سؤالًا على شخصٍ تظنّ أنّه يصغي فيقدّم لك جوابًا سريعًا معلّبًا، بكلّ قناعة، وربّما باحتقار، فالجواب جاهزٌ للإستهلاك ولقد أُنجز هضمُه.
نحن على مسافة كواكبَ من سقراط الذي لم يكن لديه مأكولاتٌ سريعة، ولا أجوبةٌ جاهزةٌ للإستهلاك، بل لديه أسئلة، ودائمًا
تساؤلٌ وشكّ. ونحن على مسافة كواكب من مُونْتانْيْه الذي يقارن من يعرضُ بالإستفراغ، خلافًا “للنحل الذي يأخذ الرحيق من الأزهار ويحوّله إلى عسلٍ كإنتاجٍ ذاتيً متميّز”، كما كان يقول.
ما هي مخاطر المعرفة بلا تفكير؟ تكمن أبرزُ المخاطر في العولمة اليوم وبخاصّةٍ في السياسة، في انتشار المخادعين وتقويض قواعد الديموقراطيّة وامتداد الشعوبيّة التي تنوب حاليًّا عن إيديولوجيّات الماضي التي كانت صلبةً في طرح براهينها.
كان يسوع يتكلّم بالأمثال، لا لمجرّد التبسيط، بل لنقل رسالةٍ مجدِّدةٍ لأشخاصٍ تبرمجوا من قٍبَل الفرّيسيّين وعلماء الناموس. هدفُ يسوع في الأمثال أن يستعملوا فكرَهُم “هم” وبنهجٍ آخر. وبالنسبة إلى القرآن نحن على مسافة كواكبَ من “التفكّر”، أي ممارسة الفكر، وهو تعبيرٌ يردُ أكثر من عشر مرّات في القرآن.
من يفكّر اليوم؟ ما زال هناك فلاسفةٌ هامشيّون، وإعلاميّون عاطلون عن العمل أو يخشون فقدان وظيفتهم، ومعلّمون سقراطيّون يمارسون التوليد الفكريّ السقراطيّ، وهناك أدباءٌ يغوصون في أعماق الضمير الحيّ وخبرات الحياة.
ما العمل؟ يبدأ كلّ شيءٍ من المدرسة والجامعة شرطَ إدراك مخاطر المعرفة بلا تفكير. ويكمنُ الخطر أيضًا، لا بالنسبة إلى شخصيّة كلّ إنسانٍ وحسب، بل إلى نوعيّة البحث ونوعيّة التعليم ومستقبل الديموقراطيّات الراسخة والتي هي قيد الإنقراض في تحوّلها إلى شعبويّة.

                                                                                                 أنطوان مسرّة
عضو المجلس الدستوري ـ رئيس كرسي الأونسكو لدراسة الأديان والوساطة والحوار في جامعة القدّيس يوسف

Spread the love