مريم السيّدة مريم الحُرّة، مريم الأمّ

يوم العذراء مريم هو يومُ عيدٍ لنا جميعًا. نحن جعلناه عيداً لأنّه يومُ السيّدة العظيمة التي اختارها واصطفاها اللهُ من بين جميع نساء عالمِها وعصرها ليخلق من خلالها بكلمةٍ من إرادته كلمةً من عظمته، وبروحٍ من سلامه روحًا من نوره، هو المسيح عيسى سلام الله عليه، أحد أعظم أنبياء الله ورُسُلِهِ إلى البشر.

مريم هي سيّدتُنا جميعًا، نحن المسيحيّين في لبنان ونحن المسلمين في لبنان. نحن اللبنانيّين جميعًا نخضعُ لها ونلتمسُ نورَها وتقواها وطمأنينتها، نستلهمُ منها ومن توحيدها وحدةً لنا في لبنانيّتِنا التي سَلبَنا إيّاها بعضُ أسيادٍ علينا ليسوا سادةً فينا، من أمراءِ حربٍ وسياسة، وأمراءِ دينٍ بين بلا تَديُّن، وأتباعِ عبادةٍ بدون إلهٍ حقيقيّ بدون إلهِ مريمَ والمسيح ومحمد سلام الله عليهم أجمعين.

حين تسيرُ حافيةً سيّدةً لبنانيّةً مسلمة، تنتَعِلُ جِلدَ قدميْها فقط، إلى العذراء مريم وفاءً لِنُذرٍ نَذَرَتْه لنفسِها ربّما، أو لولدها وعائلتها، أو لجيرانها أو لوَطَنِها، إنّما تعتقد أنّ مريمَ عليها السلام تستحِقُّ أن يُنذَرَ لها وأن يُستعانَ بها، وهي بذلك تتَّحِدُ في إيمانها وفي لبنانيّتها أيضًا مع سيّدةٍ مسيحيّةٍ لبنانيّة، تسيرُ إلى العذراء مريم، تنتعِلُ قدمَيْها فقط، أو تعتمرُ دينها وتَحتَضِنُ إيمانَها في قلبها، تلتقيان معًا في بيت مريم، تتّكئان إلى حضنِها، تهذهِدُهُما معًا، وتزرعُ من سكونِ ابتسامتِها سلامًا في قلبَيْهما سويًّا.

مريم الأمّ، ونحن ما زلنا في رحاب عيد الأمّ، هي من أكرم وأقدس الأمّهاتِ في التاريخ وفي الأديان بعفَّتِها وصبرِها وإيمانِها وخضوعِها لله في أمومتها الإعجازيّة لعيسى المسيح، أوَليستِ الأمّ هي التي تجمع أفراد العائلة يستكينونَ إليها ويطمئنّون؟ أو نحتاجُ، مسلمين ومسيحيّين، إلى أمٍّ أخرى تجمعُنا، أعظمُ وأطهرُ وأوضحُ وأقدسُ وأثبتُ من مريمَ عليها السلام؟

إن كنّا في شكٍّ من وحدتِنا فيها، لا بل من اندماجِنا معًا فيها، فنحن لا نستحقُّ أيَّ أمٍّ على الإطلاق!

ما ميزة هذه الوحدة في مريم بين المسلمين والمسيحيّين؟ هل مريمُ مجرّدُ تحفةٍ للتفاخر .. هل هي فقط تاريخٌ جميلٌ تشير إليه بابتسامةِ رضا أو صمتِ مجاملة؟ هل مريمُ شراكةٌ إسلاميّةٌ مسيحيّةٌ خرساء.. هل هي ماضٍ جميلٍ فقط وليست حاضرًا ولا مستقبلاً؟

إنّ اللهَ لا يجعلُ جمادًا منقرضًا حاملاً لكلمته ولا يصطفي امرأةً لأمرٍ عظيم، ثمّ يتركها ليتَولاّها الترابُ إخفاءً والتاريخُ نسيانًا!

كيف نستفيدُ الآن من مريم.. ماذا نفعل لها لإكرامها أكثر ولطاعتها أكثر؟ هل يكفي الاحتفال، هل يكفي الكلام، هل يكفي الثناءُ عليها أو مديحُ أنفسِنا فيها؟ كلاّ! هي لا تحتاجُنا في شيء، فاللهُ يكفيها ويُرضيها. وهي، والجنّة مسكنُها، لا تنقصُها دنيانا بمساوئِها وخطايانا فيها ونزاعاتِنا وتفرّقِنا. إنّ إكرامَها يعني أن نجعلَها جزءًا من حياتِنا في كلّ يومٍ بما هي رمزٌ لتوحُّدِنا واندماجِنا معًا ومصيرِنا معًا؛ أن تكون جزءًا من ذاكرتنا الدائمة ودليلاً لنا وشاهدًا علينا في ما نفعلُه بيننا كمسيحيّين وكمسلمين، أن تكون صاحبًا ورفيقًا لنا عندما نحاورُ آخرين ونكلّمهم ونتواصلُ معهم ونتّفق معهم على الحقّ – ليس أيّ اتّفاقٍ أو توافق – بل اتّفاق على الحقّ، وهي تكون شاهدةً معنا على الحقّ؛ أَوَلا نطلبُ شاهدًا في كلّ اتّفاق؟

هل مريمُ أجنبيّةٌ عنّا؟ هل هي أجنبيّةٌ عن الوطن؟ أبدًا.. هي مواطنةٌ أصيلةٌ ودائمةٌ في كلّ وطنٍ يسكنُهُ مسلمون ومسيحيّون، تُعلِّمُهم المواطنة وتُعلِّمُهم الوحدة، وهي في لبنان مواطنةٌ أصيلةٌ استوطنت لبنان معنا جميعًا منذ القِدَمِ وستبقى فيه ما دمنا نتصرّف مسلمين ومسيحيّين، كمواطنين لبنانيّين بكلّ مسؤوليةِ المواطنةِ وبتمامِ روحِ الوحدة بيننا.

إنّ تقاتُلَنا وتفرُّقَنا يجعلُها غريبةً ويجعلُها أجنبيّة، إنّ اختلافَنا يطردُ مريمَ من لبنان… من منكم يريدُ أن يطردَها من منا يجرؤُ أن يطردَها؟ أن تسكنَ مريمُ لبنانَ يعني أن نسكنَ نحن لبنان، ونستكينَ إليه ونرضى بدولتِهِ التي نصنعُها نحن، وليس تلك التي يصنعُها أجنبيّ.

إنّ مريمَ عليها السلام لا تسكن أوطانًا يصنعُها غيرُ أبنائها، ولا تسكنُ وطنًا محتلاًّ لأنّها كانت حرّة، كانت حرّةً لله وَوُلِدَت مُحرَّرةً لله، وهي لم تَلدْ عبدًا أبدًا إنّما وَلَدَت حُرًّا ومُحرِّرًا.

إذا أردنا أن نكون مريميّين، ونريدُ أن نكونَ مريميّين معًا، أن نكونَ أخوةً حقيقيّين في الوطن يجب أن نكونَ أحرارًا في كلّ اختياراتِنا، أن لا نكونَ مستلحقين الأحد، أن لا نكون عبّاد أصنام، أصنامِ رجالِ المذهبيّة القاتلة والحزبيّة الفئويّة.

أن نكونَ مريميّين يعني أن لا نخافَ من أحد وأن لا نُخيفَ أحدًا، ولا يوجدُ سببٌ للخوف بين اللبنانيّين أبدًا.
أن نكون مريميّين يعني أن نكون مسلمين حقًّا ومسيحيّين حقًّا، وهذا يعني أن نصبرَ على بعضنا البعض، وأن نثقَ ببعضنا البعض، وأن نكون رعاة
بعضِنا بعضًا، وأن نستكينَ إلى وطننا لبنان، يحضُنُنا ولا نلسعُه كالعقارب، ويحمينا ولا نأكُلُه كالذئاب، ولا نطعنُه غَفْلَةً كالحَمقى.

إِنَّ بِرَّنا بوطننا ليس عيبًا ولا نقيصة. إنّ المواطنةَ المسالِمة بين اللبنانيّين هي برٌّ مثل بِرّ المسيح بأمّه مريم، فلنكُن كذلك مع وطننا ولا نكون جبّارين عليه حتّى لا نكون أشقياء فيه..

حتّى نكونَ من أنصار المسيح، حتّى نكونَ من حواريي المسيح، يجبُ ألاّ يبيعَ بعضُنا بعضًا ويجبُ أن نثقَ بتوحّدِنا متساويين في إطار المواطنة. وحتّى تكونَ وحدتُنا أقوى من كلّ جهةٍ تريد أن تفرِّقَنا، يجب أن نُثبتَ للجميع “أنَّ فينا من يعتني بأمور المسيحيّين وهو ليس منهم، وأنّ فينا من يعتني بأمور المسلمين وهو ليس منهم”.

أن نستحقَّ مريم، يعني أن نكون لبنانيّين حقًّا.

إبراهيم شمس الدين

وزير سابق ومؤسِّس “مؤسَّسة الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين للحوار”

 

Spread the love