مدينةٌ ومدرسةُ حياة

 

وصلتني اليوم على الواتسأب هذه العبارة: “لنعترف بأنّنا إخوة، متخطّين كلّ حدود”. أدركتُ حينها أنّ “الإعترافَ” بأنّنا إخوة هو نقطةُ الإنطلاق للوصول إلى مجتمعٍ “جديدٍ” إذا صحّ القول. لكنّ هذا المجتمع بحاجةٍ إلى أن يُتَرْجَمَ في الحياة العاديّة، بحاجةٍ إلى أن يقترنَ بالمحبّة، بمحبّةٍ قادرةٍ أن تتخطّى أيَّ اختلافٍ أو خلافٍ أو لامبالاةٍ أو فشلٍ ولا تيأسَ البتّة. وفي الحال، تذكّرتُ مدينة “لوبيانو” الإيطاليّة، تلك “المدينة الصغيرة”، “المدينة النموذجيّة” للفوكولاري.

ولكن، لماذا لوبيانو؟
أوّلًا، لأنّها “مختبرٌ” للأخوّة الحقّة. مكانٌ يُترجمُ فيه سكّانُها هذه الأخوّة في حياتهم اليوميّة، ويقدّمون نموذجًا عن مجتمعٍ بُنيَ على المحبّة الأخويّة، المحبّة المتبادلة الإنجيليّة.
ثانيًّا، لأنّ البابا فرنسيس ذهب لزيارتها في العاشر من أيّار من هذه السنة، وهو أوّل بابا يطأ أرضَها، منذ نشأتها سنة ۱۹٦٤! وفي هذه المناسبة وصفها قائلاً: “لوبيانو مدينةٌ يبرزُ فيها جمالُ شعب الله قبل كلّ شيء، في غنى أعضائه وتنوُّعِهم، كلٌّ منهم في حوارٍ مع الجميع وفي خدمة الجميع (…)”، مضيفًا: “وهي تريدُ أن تكونَ “مدينةً ـ مدرسةً” حيث لا أدوارٌ ولا فرقٌ بين الأعمار والثقافات، بل محبّةٌ متبادلة، تصلُ بنا إلى بناء بعضِنا البعض (…)، تشملُ الجميع، منفتحةٌ عليهم، وذلك من خلال العمل في الأرض، والأنشطة والمشاريع الصناعيّة، ومدارس التنشئة، ومنازل الضيافة والمُسنّين، والمعارض الفنّيّة والفِرَقِ الموسيقيّة ووسائل الإعلام الحديثة… هي عائلةٌ، يلتزم أعضاؤها بأن يعيشوا وصيّة المحبّة المتبادلة في ما بينهم وتجاه الجميع، لا ليكونوا مُطْمَئنّين خارج العالم، بل ” ليخرجوا” و”يلتقوا” ولِيَرْموا بالملء خميرة الإنجيل في عجينة المجتمع…”
نعم، إنّ قانونَ لوبيانو هو المحبّةُ المتبادلة وهي تضمُّ اليوم ۸٥٠ شخصًا من علمانيّينَ ومُكرَّسين، ورهبانَ وراهبات. هناك مجموعةٌ ثابتةٌ في لوبيانو، وهناك من يأتي للتعمّق في روحانيّة الحركة، روحانيّة الوحدة، ومن يزورها لفترةٍ قصيرةٍ يعودُ بعدَها إلى بيته حاملاً القناعةَ بأنّ العالمَ المُتّحد بالأخوّة ممكنٌ، فقد لمسهُ لمسَ اليد…
ولكن لِنَسْتمعْ لِما قاله قداستُهُ لشعب لوبيانو ولحركة الفوكولاري كَكُلّ:
“لا تتخلّوا عن ثقتكم، كونوا دائمًا صادقين، صريحين وغير خائفين. لا بُدَّ لكم من الثبات والحزم والصبر للعيش بعِنادٍ وسكينةٍ وإيجابيّةٍ وإبداع… وقليلٍ من روح الفكاهة أيضًا، حتّى في أصعب اللحظات.
كاريزما الوحدة هو دعوةٌ من العناية الإلهيّة لنعيشَ الــ”نحن”: روحانيّةُ الــ”نحن”! “ما هو عكسُ الأنا؟ عكسُ الأنا، أي الأنانيّة، سواءً الــ”أنا” أو الــ”أنتَ” هو “نحن”. يجبُ أن تمضوا قُدُمًا بروحانيّة الـ”نحن”! “ليست حقيقةً روحانيّة فحسب، بل نتائجها رائعة على المستوى الإجتماعيّ والثقافيّ والسياسيّ والإقتصاديّ…”
“علينا تثقيف أنفسنا لممارسة اللغات الثلاث معًا: الرأس والقلب واليدين (…) يجب أن تكون هذه اللغات الثلاث مُترابطة. تُفكّر بما تشعر به وتفعله، تشعر بما تفكّر به وتفعله، وتفعل ما تشعر به وتفكّر به. وهذا معنى التربية.
وعلى السؤال: “ما هي الإجابة التي يُمكن أن نُعطيها لتحدّياتِ عصرنا كفرصةِ نُموٍّ للجميع؟ أجاب قداستُهُ: “في تغيير الحقبة الذي نختبره اليوم ـ وهي ليست حقبة تغيير بل تغيير الحقبةـ يجب أن نلتزم، لا من أجل اللقاء بين الناس والثقافات والشعوب والتحالف بين الحضارات وحسب، بل كي نُحقّقَ كلُّنا معًا التحدّي الأساسيّ الذي هو بناء ثقافة لقاءٍ مشتركة، وحضارة عهد عالميّة (…)”.

واضحٌ جدًّا أنّ عالمنا بحاجةٍ إلى رجالٍ ونساء، شبابٍ وعائلاتٍ وأشخاصٍ من جميع الدعوات والمِهَن قادرين على “رسم مساراتٍ جديدةٍ للسفر معًا”. ليتنا نكونُ من هؤلاء الناس. التحدّي كبيرُ لكنّ ثقافة الـــ”نحن” أقوى، الإنفتاح أقوى، المحبّة الأخويّة الإنجيليّة أقوى. معًا، يُمكنُنا أن نسمعَ صُراخَ الإنسانيّة ونحاولَ الإستجابة على نداءاتِها وسَدِّ حاجاتِها.

إعداد حياة فلاح

Spread the love