ليلٌ رهيبٌ ومشرق
في عيد السنة الثمانين للفوكولاري ١٩٤٣ – ٢٠٢٣
كيارا لوبيك (١۹٢٠ – ٢٠٠٨) هي مؤسِّسة حركة الفوكولاري، وأوّل رئيسةٍ لها، وكاتبةٌ غزيرة الإنتاج. نتوقّف في هذا الجزء الأوّل مع بعض المحطّات المهمّة من حياتها للفترة الممتدّة ما بين سنة ١۹٢٠ حتّى سنة ١۹٣٧.
“وحلّ الليل. رهيبٌ هذا الليل الذي لا يعرفُ عمقَ ألمه سوى الذين اختبروه. […] سحق الألم كلًّا من حياتي الجسديّة والروحيّة. تأثّرت صحتي بطريقةٍ قاسية، وهجرني السلام، بالتالي الله”. هذا ما كتبته كيارا لوبيك في ١٨ مارس ١۹٥٢، مُعربةً عن المحنة التي طبعت حياتها الشخصيّة.
بعد الإتّهامات التي واجهتها الحركة في ربيع عام ١۹٤٨، طلب أسقف ترينتو، كارلو دي فيرّاري، تحقيقًا أبرشيًّا كُلِّلَ بنتيجةٍ إيجابيّةٍ للحركة الحديثة الولادة. ومع ذلك، أبلغ البعض المكتب المقدّس في الفاتيكان عن ولادة تلك الحركة. فباشر المجمع الأعلى بدراسةٍ دامت لفترةٍ طويلة، أي لغاية عام ١۹٦٤. كان يتمُّ خلالها استجواب كيارا بشكلٍ متكرّر، واشْتُرطَ عليها مراعاة السريّة التامّة. فعاشت كيارا تلك المرحلة في عزلةٍ وطاعةٍ كاملة، متقبِّلَةً احتمال إبعادها عن الحركة.
تكتب كيارا إلى المونسنيور دي فيرّاري في ٥ يناير ١۹٥١ : “صحيحٌ كان الصليبُ ثقيلاً ولا زال. لقد فهمتُ في غضون هذه الأيّام “سقوطَ” يسوع تحت وطأة صليبه. ومع ذلك، يا صاحب السيادة، أنا سعيدة.” وتتابع: “لقد وهبني يسوع النعمة لأكون مستعدّةً لكلّ قرارٍ سَتتَّخِذُه الكنيسة. […] أنا سعيدة، يا صاحب السيادة، بأن أعودَ وأقدّمَ لله كلّ ما فعله، في المجال الفائق للطبيعة، من خلالي. وأؤكّد لكَ أنّه مهما حدث، ستجدُني دائمًا مخلصةً ليسوع المتروك والأكثر طاعةً للكنيسة”.
في الأشهر الأولى من عام ١۹٥١، فُرضَ على بعض رجال الدّين ألّا يكونوا بعلاقةٍ مع حركة الفوكولاري، كما وُجِّهتْ نصيحةٌ للنائب إيدْجينو دجُورْداني، القريب من الحركة الناشئة، أن ينفصل عنها. ومع ذلك، تركّز اهتمام المكتب المقدّس على شخص كيارا ودورها، وهي امرأةٌ شابّة، وقد باتت مسؤولةً عن واقعٍ مُتعدّد الأوجُه.
في ٨ فبراير ١۹٥٢ صدر قرارٌ كان قد اتُّخذَ من أشهر عدّة، وهو “بألاّ تكون الحركة بين يدَي كيارا لوبيك”.
في اليوم التالي، كتبت كيارا رسالةً تستقيل فيها من منصبها كرئيسة، مع الإبقاء على صفتها “كمجرّد فوكولارينه”. وكتبت بكلّ ثقةٍ للأب كورّا، الذي كان مَن أعطى ذلك البلاغ، تقول: “أنا سعيدةٌ جدًّا، يا أبتي، لتقديم هذه المساهمة الصغيرة كي تتحقّقَ وصيّة يسوع “ليكونوا بأجمعهم واحدا”، لِتنسَحِبَ مخلصةً ل “يسوع المتروك”. تمّ تعيين جْوُزِي غيلاّ، إحدى رفيقاتها الأوائل، لتحلَّ مكانها.
“موتٌ بِحُبّ”، هكذا وصفت كيارا الخطوة التي طُلبَتْ منها في تلك الفترة، فعاشت في نور سِرِّ مريم الواقفة عند أقدام الصليب. عاشت في منطق حبّة القمح التي تموت لتؤتِيَ بثمرٍ وفير، فكان وقتُ النعمة هذا مثمرًا جدًّا؛ ها هي النار تنتشرُ وتَعبُرُ الحدود الإيطاليّة، لتزهّرَ دعواتٍ جديدة.
في نوفمبر ١۹٥٣، شهد دْجُورْداني تكريسَ مجموعةٍ من الفوكولارينه والفوكولاريني، البنات والشباب. عبّر جيورداني عن الدعوة إلى البتوليّة بكلمات أغنيةٍ فيها الكثير من المدح والدهشة، فأثار ذلك في كيارا إلهامًا كان من شأنه أن يزرع بذرةً جديدة، ألا وهي انضمام المتزوّجين إلى الفوكولاري.
وتكتب كيارا لدجُورْداني: “إنّ التواضعَ أمرٌ مَرْضِيٌّ عند الله دائمًا، أتذكر ما قلناه مرّةً؟ ما الذي ينقصك يا فوكو؟ […] إذا كان يسوع المتروك هو كلُّ شيءٍ بالنسبة إليك، فأنت فارغٌ من نفسِكَ وممتلىءٌ من الله؛ إذا كنتَ ممتلئًا من الله، فأنت المحبّةُ الحَيّة؛ وإذا كنتَ تعيشُ هذه المحبّة، فإنّ اللهَ يعيش فيك: فمَن بالتالي يعيش البتوليّة الحقّة أكثر منك؟”. تقدِّم له كيارا اقتراحًا: “لماذا لا تُكرّس نفسَكَ ليسوع المتروك، وتُقدّمُ ذاتك قربانًا على مذبح الحُبّ، لماذا لا تكرّس نفسَكَ لمثالِنا بهذه الطريقة؟”. وهكذا كرّس فوكو نفسه كأوّل فوكولارينو متزوّج.
إنّها لحظةٌ من الفرح والنور، باركها الأب جوفانّي باتّيستا تومّازي، الذي أراده الأسقف دي فيرّاري منذ ١۹٤۹، أن يكون هو مَن يرافق كيارا فى رحلتها الصعبة حتّى الحصول على موافقة كنيسة روما. دعم الأب تومّازي كيارا وشجّعها، وساعدها على “قراءة” وضعِها المتأرجِح والمؤلم على ضوء ليل الإيمان الذي مرّ به القدّيس يوحنا ذو الصليب. تدهورت فيما بعد صحّة الكاهن الحكيم وكانت كيارا هي التي رافقتهُ ناقلةً إليه خبرَ لقائه القريب بالله، الذي تمّ في ٢ يناير ١۹٥٤. بعد بضعة أشهر، في ٤ أبريل ١۹٥٤، تمّ في تْرَنتو، ارتسامَ باسكوال فوريزي كاهنًا، بمباركة الأسقف دي فيرارّي. يؤكّد جورداني على الختم المريمي لأوّل كاهنٍ فوكولارينو. وفي الوقت نفسه، ما زالت دراسة الكنيسة لوضع الحركة مستمرّة.
فهم الأب كورّا واقتنع بأصالة الحركة الكنسيّة الناشئة، ولكن، تمّ في حينه، استبداله بزائرٍ جديد، هو الأب ألفونسو أورليني. وللأسباب ذاتها، سينهي أورليني فترة خدمته بعد ثلاث سنوات. ستقول كيارا لاحقًا: “في هذا الوقت، كان على يسوع المصلوب والمتروك أن يسكن أرواحنا. يسكنها لدرجةٍ تجعلنا ندركُ جميعًا كيف أنّه لو لم يكن موجودًا منذ البدء وحتّى الآن، لما كانت حركة الفوكولاري موجودة، لأنّه لما كان هناك وحدة”.
في العام ١۹٥٤، ولد في قلب كيارا وفكرها حدسٌ تكتشف معه الحبّ في سبعة مظاهر. إنّه كشعاع النور الذي يمرّ عبر قطرة ماء، فيتجزّأ إلى ألوان قوس القزح السبعة. الحبّ، أي حياة يسوع فينا، يؤدّي إلى الشَرِكة (الأحمر). الحُبّ ليس مغلقًا على ذاته، بل هو منفتحٌ ومنتصرٌ (البرتقالي). الحُبّ يسمو بالروح (الأصفر). الحب شفاء (الأخضر). يجمع الحبُّ الناسَ مع بعضهم كجماعة (الأزرق). الحُبّ هو مصدرٌ للحكمة (النيلي). الحُبّ يجعل من الكثيرين واحدًا، إنّه الوحدة (البنفسجي).
———————————————————
۹ فبراير ١۹٥١
صاحب السعادة،
لقد أبكتني البطاقة التي أرسلتموها لي. إنّ الإنجيل، الذي هو نوري الإلهيّ، يقول لي: “كلُّ ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم”.
ولكنّي لم أكن أشعر بأن أطلبَ تغيير الحزن الذي كنت فيه بواسطة إيماني…، فذلك الحزن كانت ترافقه ارتداداتٍ يوميّةٍ ومتتالية. كان الكثيرُ منها يحصل كلَّ يوم، أيّةُ “غنيمةٍ كبيرةٍ” هذه. هذه الثمار ليست إلاّ نتيجة حَمْلِ الصليب، ومحبّةِ جميعِ أولئك الذين يعيشون الوحدة، وثمرة الشَرِكة الكاملة مع القدّيسين.
ولكن، في ذلك الصباح طلبتُ من الآب باسم يسوع نعمةً من أجلكم … وها أنتم تكتبون لي وتطلبون مني أن أنتظر نعمةً ستأتيني. يا صاحب السيادة، كم عايَنْتُ محبّةَ الكنيسة وشعرتُ بها عظيمةً جدًّا، تأثّرتُ إلى حدّ البكاء. يا صاحب السيادة، أو بالأحرى يا أبتي، ليتك تعرفُ عمقَ الاتّحاد بالله الذي حَمَلَهُ لي هذا الصليب! أنا، وإن لم ترَ عيناي الله، كنت كمَن يقف أمامه وجهًا لوجه، فالحياة جنّةٌ، جنّة! وكلّ شيء من حولي نار! […] إذا كان الصليب يحمل كلّ تلك الثمار… ولكن، ها إنّي ورغم ذلك، مستعدّةٌ أن يؤخَذَ منّي، لأنّ تلك هي رغبتكم أنتم. إبنتكم كيارا
المدينة الجديدة