كي يستطيعوا التعايش مع هذا الواقع كان لا بدّ من تسهيل حياتهم اليوميّة. إستبدلوا مثلًا إشارات السير بأرقام، مثلاً رقم ١ للضوء الأحمر، رقم ٢ للضوء الأصفر و٣ للضوء الأخضر، منظّمين هكذا عمليّة السير…ذات صباحٍ رماديٍّ من شهر أيّار تفاجأ السكّان بوجود رجُلٍ غريب، صغير القامة، يرتدي سروالًا لونه أصفر ولامع، وقميصًا مخطّطًا بالأخضر والأرجوانيّ، وسترةً مخمليّةً حمراء، وربطةَ عنقٍ زرقاء. كان جالسًا على حقيبته في الساحة العامّة مكتوفَ الأيدي. مرّت بقربه سيّدة وقالت: “أنصحُكَ ألّا تبقَى طويلًا هنا كي لا يتحوّل لونُ ثيابِكَ إلى رماديّ، فابْتَسَم الرجُلُ الغريب ولم يُجب.
عندما خرج الأطفال من المدرسة، إلتفّوا حوله يحدّقون به. قال كمال بكلّ ثقة: “أنا أقول إنّه ساحر. أنظروا إلى ثيابه وحقيبته”. وقال مجد: “مَنْ يدري ما في حقيبته؟”. سألتْ ليلى الرجُل: “هل نستطيع أن نرى ما يوجد في حقيبتك؟”، لم يُجب الرجُل ولم يتحرّك. فسألتْه ليلى ثانية مضيفة: “مِنْ فضلكَ”، لكن دون جدوى. ذهب الأطفال خائبي الأمل. مرّ أسبوعٌ والرجُل الغريب في مكانه. أتعرف ما الذي أثار اهتمامَ السكّان أكثر من أيّ شيءٍ آخر؟ لم يتساءلوا كثيرًا مَنْ هو هذا الرجل أو ماذا يريد، بل لماذا لم يتحوّل لونُ ثيابه إلى الرماديّ.
أخيرًا، ذات يوم، تكلّم الرجُل. إحزروا ماذا قال! تفوّه فقط بهذه الكلمات: “إذا كانت مدينتُكم رماديّةً فهذا بسبب الأكاذيب. تذكّروا أنّ الحقيقة دائمًا مشرقة، مضيئة”. ثمّ لوَّحَ بيده مُودِّعًا، أخذ حقيبتَهُ وغادر. كان ذلك يوم الأحد وكانت الساحةُ مزدحمةً بالناس لذا سَمِعَه الكثيرون خاصّةً الأطفال الذين صمتوا مندهشين. قالتْ ندى: “ماذا لو كان على حقّ؟”، ضحك الكبار وقال رئيس البلديّة: “لقد فشل مجلس المدينة في حلّ مشكلةٍ نعاني منها منذ سنوات فكيف يُمكن لرجُلٍ غريبٍ أن يفعل ذلك؟”.
مع مرور الأيّام زاد اقتناعُ الأطفال بما أكَّدَهُ الرجُل. إجتمعوا على العشب الرماديّ في الساحة، واتّفقوا ألاّ يكذبوا بعد الآن. تصافحوا بجدّيّة وتمّ هكذا العهد بينهم. سرعان ما أدركوا أنّه ليس من السهل التوقُّف عن الكذب. أوّل مَن دفع الثمن كان مجد. بينما كان يقوم بحركاتٍ بهلوانيّةٍ في غرفة الجلوس، (كم مرّةٍ ومرّة، طلبتْ منه أمّه ألّا يفعل ذلك، إصطدمتْ رِجْلُهُ بمزهريّةٍ خزفيّةٍ جميلة، فوقعتْ وانكسرتْ. سمعَتْ أمُّه صوتَ الأشلاء المتناثرة على الأرض. جلس مجد بسرعة البرق على الأريكة وحمل كتابه المدرسيّ، فسألتْه أمّه: “مجد مَنْ فعل ذلك؟.” أراد مجد اتّهام قطّة المنزل لكنّه تذكّر العهد الذي أقامه مع باقي الأطفال فاعترف: “أنا يا أمّي”، ووجد نفسه محجوزًا في غرفته محرومًا من مشاهدة الرسوم المتحرّكة التي ينتظرها يوميًّا.
أمّا سلوى فجعلتْ شقيقها يكتب موضوع الإنشاء مكانها. أرادت المعلّمة أن تضع علامةَ “ممتاز” لكنّها تريّثتْ وسألتْها: “سلوى أهذا كلّه مِن عندكِ؟”، إحمرّ وجهُ سلوى وتذكّرتْ العهد بعدم الكذب وأقرّتْ: “كلّا، هذا عملُ أخي.”
صحيحٌ أنّ قولَ الحقيقة يكلّفُ الكثير!
تعجّب الكبار من صدق الأطفال وشيئًا فشيئًا أصابتْهم العدوى فَلمْ يعودوا يكذبون. كلّفهم ذلك جهدًا كبيرًا لأنّ أكاذيبَ الكبار أكبر من أكاذيب الأطفال.
مرّت الأشهر وفي أحد الأيّام عاد الرجُل الغريب إلى المدينة وجلس على حقيبته في الساحة من جديد. ركض نحوه الأطفال وهم يهتفون: “لمْ نَعُدْ نقول أكاذيب أبدًا وكذلك الكبار”. إبتسم الرجل وأجاب: “أعرف… أعرف”، ثمّ اقتربَ مِن ليلى وقال لها: “الآن يمكنكِ فتحَ الحقيبة”. فتحتْ ليلى الحقيبة وقلْبها يخفق بقوّة. لم تجد لا أرانب ولا مناديل ملوّنة ولا حمام أبيض بل تطايرت من الحقيبة مئات الآلاف من رقّاقات الثلج الأبيض وغطّت كلّ المدينة برداءٍ ناصعِ البياض. لم يتمالك الأطفال أنفسهم من الفرح، أقاموا رجُلَ ثلجٍ في كلّ ركنٍ من المدينة وراحوا يتزلّجون بحماسٍ في الشارع الرئيسيّ، وشاركهم الكبار بهذا الفرح.
قال عمدة المدينة متشائمًا: “سيذوب الثلج ويعود كلّ شيءٍ كما كان”، أمّا ليلى فراحت تُزيل الثلج عن مقاعد الحديقة ليظهرَ لونُها الأحمر الزاهي! لم تعُد المدينة رماديّة! قال الرجل الغريب: “لا أكاذيب بعد الآن”، ثمّ أومأ بيده مُوَدّعًا وذهب بعيدًا.
لورا بيراسّي