للمياه أهمّيّة قصوى
لأنّ الماء عنصرٌ أساسيٌّ في حياة الإنسان والحيوان والنبات من أجل البقاء والإستمرار، أعلنَتْ الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة في العام ١٩٩۳، يوم ٢٢ مارس/آذار “اليوم العالميّ للمياه”. ما زال العالم حتّى اليوم يحتفلُ به لِرَفع مستوى الوعي عند الأفراد حول أزمة المياه في العالم. ولأنّ يومًا واحدًا خلال السنة لا يكفي بالتأكيد، فالأفراد والمؤسّسات والحكومات والجمعيّات يعملون بجدٍّ كلّيٍ لمواجهة هذا التحدّي. باتوا يُشبهون الرُسُل في قيامهم بمهمّة تعزيز وصول هذا الخير العام، وبخاصّةٍ مياه الشفا لجميع الشعوب، وتخطيط جميع السياسات المائيّة وتنفيذها، وتنوير المجتمع المدنيّ أشخاصًا ومؤسَّسات، وتَثقيفِه.
الدكتور فادي قْمَيْر إختصاصيٌّ في موضوع المياه في لبنان والعالم، رئيسُ مجلس البرنامح الحكوميّ الدوليّ للمياه في اليونيسكو ( (IHP منذ سنة ٢٠١٩، مديرُ عام الموارد المائيّة والكهربائيّة، أستاذٌ جامعيّ، ومُبتكِرُ مفهوم “الدبلوماسيّة المائيّة” التي تقوم على مفهوم الماء مقابل السلام وترفض “الحرب والمياه”.
يحملُ الدكتور فادي قْمَيْر في أفعاله ومنشوراته شغفًا بالموضوع، وفي قلبه هَمّ الأجيال الجديدة، ليضمنَ لها حياةً كريمة. وهو يعملُ من أجل ذلك على المُتلازمة الثلاثيّة: المياه – الطاقة – الغذاء…
إلتَقَيْناه واسْتَطْلَعْناه موضوعَ مشكلة المياه، التي تشكّل مجالَ اختصاصِهِ بامتياز.
كيف يُمكننا كمجتمعٍ مدنيٍّ أن نقومَ “بتعزيز الوعي الجماعيّ في مجال الأمن المائيّ”؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ المجتمع المدنيّ له دورٌ أساسيٌّ في تعزيز الوعي الجماعيّ في مجال الأمن المائيّ. يجبُ أن يتوجَّهَ إلى الأفراد والجماعات. والجهة التي تقوم به يجبُ أن تكونَ على معرفةٍ وإلمامٍ كافي به.
نُعَوّلُ كثيرًا على دور التربية الوطنيّة، سواءً في المدارس أم في المعاهد والجامعات، لنشر ثقافة المياه، التي ينبغي أن تكونَ وسيلةً لنشر السلام بين الشعوب. فيكون تعزيز الوعي الجماعيّ من خلال ندواتٍ ومحاضراتٍ ونشاطاتٍ ذات صلة. يُمكنُ تخصيص جوائزَ لتحفيزِ الطلاّب وحَثِّهم على أهمّيّة دورهم في هذا الموضوع، من خلال تقديم أفكارٍ جديدة، ومشاريع إبداعيّةٍ وخلّاقةٍ في هذا المجال، وهم بدورهم سينقلون هذا الوعي إلى بيئتهم وعملهم في المستقبل.
في هذا الإطار أودُّ أن أُشيرَ إلى أنّه إلى جانب دَوْرِ اليونسكو العلميّ في مجال المياه، هناك مجلسُ البرنامج الحكوميّ الهيدرولوجيّ الدوليّ IHP الذي نَرأسُهُ حاليًّا، إذ نعملُ على تعليم المياه بشكلٍ يتجاوزُ تطبيقَ العلوم الهيدرولوجية، كما نبذلُ جهودًا للمساعدة في الوصول إلى التثقيف في مجال المياه:
للإعلاميّين حتّى يتمكّنوا من توصيل قضايا المياه بدقّةٍ وفعاليّةٍ نظرًا لدورهم المؤثِّرِ جدًّا في تثقيفِ المجتمع عامّةً.
كذلك للسلطات المحلّية من بلديّات وغيرها التي لها دورٌ كبيرٌ في هذا المجال لناحية التوعية والمراقبة لاِستعمالِ المياه وعدمِ هدرِها؛ فَتَنْشأ ثقافةٌ عامّة، وبالتالي يَتَكَوّنُ رأيٌ عام حول هذه المواضيع، ويتعزّزُ الوعيُ الجماعيّ على الصعيد الوطنيّ وبالتالي الإقليميّ والدوليّ.
إنّكَ مبْتكِرُ فكرة أو مفهوم الدبلوماسيّة المائيّة Hydrodiplomatie، على ما يقوم هذا المفهوم؟
ترمي الدبلوماسيّة المائيّة إلى إقامة شكلٍ جديدٍ للحُكم يطمحُ إلى بناء السلام، والهدف هو استبعادُ كافّة أشكال الهيمنة من قِبَلِ أيِّ بلدٍ على بلدٍ آخر، وإبعاد الهيمنة العسكريّة عن الوصول إلى مصادر المياه، ورفض مفهوم الإدارة الآمنة أو المُهَيٍمنة للمورد. أمّا الغاية فهي الوصول إلى الإستخدام العادل والمعقول للمياه من أجل تحقيق منفعةٍ مُتبادَلةٍ بين البلدان والمناطق المُتشاطِئَة.
يُمثِّـلُ مفهومُ الدبلوماسيّة المائيّة الذي قَدَّمْتُهُ إلى المجتمع الدوليّ،
بعد المفاوضات بشأن حوض نهر العاصي، مثالًا للمفاوضات الناجحة التي أفْضت، بعد أكثر من 50 عامًا من المفاوضات، إلى اِتّفاقٍ مُربحٍ للجانبَيْن اللبنانيّ والسوريّ، في ما يتعلّق بإقتسام مياه نَهرَيْ العاصي والكبير الجنوبيّ.
كان مفتاحُ هذا النجاح تطبيقَ كلا البلدَيْن (لبنان وسوريا) لإتفاقيّة الأمم المتّحدة حول الإستخدامات غير الملاحيّة للمجاري المائيّة الدوليّة لعام ١٩٩٧. ومع حلول عام ٢٠١٥، قرَّرَتْ اليونسكو تقديمَ هذه الحالة كنموذجٍ مثاليٍّ للتفاوض في كتابٍ بعنوان “دبلوماسيّة العلوم وإدارة المياه العابرة للحدود: حالة نهر العاصي”. ولكن ينبغي إحاطة الدبلوماسيّة المائيّة وتشجيعها من أجل مَنعِ الصراعات وتسوية النزاعات بين الأطراف المتنافسة تحت نهج “الماء للسلام”، فتتخلّى بذلك عن خطاباتٍ ووجهاتِ نظرِ “الحرب والمياه”. يُمكنني القول إذا كان بإمكان المياه أن تمنحَ الحياة، فيُمكنُها أن تأخذَها بخاصّةٍ إذا كان الأمنُ المائي مُهدَّدًا بخطر هيمنة دولةٍ على أخرى.
من جهةٍ اخرى، تشكّلُ مجاري الأنهر الدوليّة وِفقَ إحصاءات الأمم المتّحدة حوالي ٢٧٦ مجرى، وتعبر الحدود السياسيّة لـ ١٤٧ دولة في العالم، الأمر الذي أدّى إلى نشوء نزاعاتٍ دوليّةٍ للمُطالبة بحقوق الدول في المياه. لذا، فقد اعتمدت الدول في معالجة هذه القضايا مفهومَ الدبلوماسيّة المائيّة من أجل تحفيز التعاون من أجل الإنسانيّة، بدلاً من أن تكونَ هذه المجاري مصدرًا للنزاع بين الدول.
ما هي”القضايا الوجوديّة التي تنشأ عن الإفراط باستعمال المياه (الأمن المائيّ)”؟
نحن نستهلكُ موارِدَنا المائيّة إلى أقصى حدٍّ مع التغيُّرات العالميّة مثل النموّ السكّانيّ، والتنمية الإقتصاديّة غير المستَدامة، وتغيُّر المناخ، والوباء، مثل COVID 19 المُسْتَدامة، وحرائق الغابات، والتلوُّث والضغوط بجميع أنواعها، كلُّ هذه الضغوط والمخاطر تزيدُ من الطلب على المياه. بالإضافة الى أنّ تَغيُّرَ أنماطِ تدفُّق الأنهار وخزّانات المياه الجوفيّة يزيدُ من احتمال حدوث الفيضانات والجفاف والأحداث الأخرى غير المتوقَّعة، حيث أصبح الناسُ أكثرَ ما يعيشون في المدن، إذ يعيش فيها أكثر من نصف سكّان العالم، وهذا يعني أنّنا نعيش في عالمٍ مائيٍّ غير آمن.
١١٪ من سكّان العالم لا يحصلون على مياه صحيّة،
١،٨ مليار شخص وهو ما يعادل ٢٥٪ من سكّان العالم، لا يحصلون على صرفٍ صحّيٍ ملائم للمياه.
إنّ القضيّةَ الرئيسيّة ليست ما إذا كان الماءُ هو حقٌّ من حقوق الإنسان، لكنّها تكمنُ
في كيفيّة ضمان حصول جميع البشر على المياه النظيفة والصرف الصحيّ المناسب.
إنّ القضايا الوجوديّة التي تنشأ عن الأمن المائيّ تتمثّلُ بتهديد حياة الإنسان بحدّ ذاتها، وحياة الشعوب، وتحوّلاتٍ جذريّةٍ في الطبيعة، لدرجة اختفاء شعوبٍ واندثار حضاراتٍ كانت معروفة وتدهورِ حالةِ بعض البحار المُهدَّدة بالإختفاء. نذكر في هذا الاطار انقراضَ حضارة “شعوب المايا” MAYA، اختفاء بحر آرال، الحالة المزرية للبحر الميّت.
في ختام جولتنا مع الدكتور فادي قْمَيْر، نذكر الدراسة التي قام بها قسمُ التنمية البشريّة المُتكاملة في الفاتيكان في شهر آذار/مارس ٢٠٢٠ “التوجيهات حول المياه، رمزُ صرخة الفقراء ونداء الأرض” ومعها نقول:
“الماءُ هو رمز التجديد لأنّه الشراب الذي نحتاجُهُ باستمرار ؛ إنّه يُطهِّرُ بِاسْتمرار، ويُجدّدُ حياتنا. يُمكن إساءة استخدامِهِ وجعلِهِ غيرَ صالحٍ للإستعمال وغير صالحٍ للشرب، وملوّثًا ومُهْدَرًا، غير أنّ متطلّبات الحياة البشريّة والحيوانيّة والنباتيّة تتطلّبُ منّا تحمّل المسؤوليّة والعناية معًا بمنزلنا المشترك”.
لنستجِب لنداء البابا فرنسيس العاجل الذي يدعونا إلى “حوارٍ جديدٍ حول كيفيّة بناء مستقبل كوكب الأرض.
نحن بحاجةٍ إلى تحَوُّلٍ يُوَحِّدنا جميعًا، لأنّ التحدّي البيئيّ الذي نمرُّ به يؤثّرُ علينا جميعًا، وجذورَهُ البشريّة تهمُّنا “
في هذا الإطار، يمكن للمفعول المُجدّد للمياه أن يُلْهمَ ويُحفّزَ كلَّ واحدٍ منّا والجميع معًا.
Fadi Georges Comair In Annales des Mines – Responsabilité et environnement 2017/2 (N° 86) https://www.cairn.info/revue-responsabilite-et-environnement-2017-2-page-49.htm?contenu=resume
إعداد شارلوت فرحات