الأسقف جوزيف نفّاع يحمل شهادات عدّة، منها دراسات عليا في اللاهوت البيبليّ من الجامعة الغريغوريّة في روما، وشهادة دكتوراه في اللاهوت البيبليّ.عيّنه البابا بمرسوم حبريّ ليكون أول زائر بطريركيّ مارونيّ في شبه الجزيرة العربيّة.
وكان من البديهيّ طرح السؤال الأوّل الذي يشغل قلوبنا بدافع محبّتنا للبنان: “طمنّا على لبنان”
يمرّ لبنان بفترة مخاض، فالصيغة الموجودة اليوم لم تعد قابلة للإستمراريّة، والفراغ في الحكم يتخطّى أي إنجازات من بعيد. الصعوبة في لبنان تكمن في إمكانيّة التحدّث حول صيغة جديدة، صيغة نلمس أنّ الجميع مقتنع بها، لكنّ الجميع يهابها لعدم القدرة على الإتّفاق حولها بسبب تعدّد الطوائف والتيّارات السياسيّة في لبنان. المعضلة هنا، ونحن واقفون على بابها لا نجرؤ على اجتيازها والأزمة الإقتصاديّة أضحت خانقة. نعيش بفضل المساعدات اللي تأتينا من المغتربين اللبنانيّين وغيرهم، واللبناني لا يرضى بالعيش مستعطيًا، لذا يترك اللبناني بلده ويهاجر بأعداد كثيرة… أين ميناء الخلاص؟
هذه زيارتكم الثانية لمصر، هل تحبّون زيارتها؟
نحن كهنة، وفي كلّ مرّة يدعونا الربّ نجيب كما فعل آشعيا النبيّ ونردّد معه “ها أنا ذا”. أما عن اختباري مع مصر، فهو اختبارٌ جميل جدًّا. حين كنت طالبًا في روما تعرّفت إلى عدد كبير من الآباء المصريّين واليوم هم أساقفة، لذا قدومي إلى هنا يعني قدومي لمكانٍ أعرفه وألتقي فيه بأصدقائي. أذكر على سبيل المثال الأسقف طوق مسعدلي والأسقف بطرس شاهين والأسقف عمانوئيل خالد عياد. أمّا في السينودس من أجل الشبيبة في روما فكنت في حلقة حوار مع نيافة البطريرك ابراهيم اسحق… وكنت قد التقيتُ مرّات عدّة بالأسقف باخوم في لبنان إذ كان نائب رئيس الإكليريكيّة، لذا أقول معرفتي بهم وطيدة.
رُسمتَ أسقفًا عام ٢٠١٦، وأنت أسقف شابّ، حدّثنا عن هذه الخبرة وعن كيفيّة التعامل مع شباب اليوم؟
صدقًا، لم تكن الأسقفيّة ضمن حساباتي. إختصاصي هو الكتاب المقدّس وكنت أعلّم في خمس جامعات في لبنان، خمسة أيّام في الأسبوع، وفي كلّ يوم في كلّيّة مختلفة. إذًا كان كلّ وقتي مشغولاً في التعليم وبعدها في الإكليريكيّة حيث كنت مُنَشِّئًا. حين تكون منشّئًا لا تُسلَّم رعيّة، لكن الحال كان مختلفًا معي، فلأسبابٍ إضطراريّة طلب منّي الأسقف في حينه وإستثنائيًّا أن أكون كاهن رعيّة لمنطقة بْنِشعي لمدّة سبعة أشهر، لكنّي بقيت ١٤ عامًا، وكانت هذه الفترة من أجمل الخبرات في حياتي الكهنوتيّة، إلى حدٍّ يجعلني أقول إنّ كلّ من يدخل الإكليريكيّة عليه أن يكون ملتزمًا برعيّة، أقلّها كمعاون وإن ليومٍ واحد في الأسبوع. لماذا؟ ليكون قريبًا من الناس. كم تعلّمت أمورًا من خبرتي في بْنِشعي. أمّا اختباري كأسقف فلم يختلف بشيءٍ بالنسبة إلي: كانت قبلها رعيّتي صغيرةً جدًّا، مؤلّفةً من أربعين منزلاً، أهتمّ بها روحيًّا وإنسانيًّا، واليوم أنا أسقف مسؤول عن خمسين كاهنًا. هؤلاء هم اليوم رعيّتي، أنا كاهنُ كهنتي، أهتمّ بهم وأعيش معهم حياةً عائليةً رباطُها متين.
هلاّ شرحتم أكثر معنى الحياة العائليّة هذه؟
سأشرح الأمر متحدّثًا أيضًا عن التكنولوجيا. كما تعلمون، أنا مطران لأبرشيَّتيْن على نيابَتَيْن بطريركِيّتَيْن. كلّ أبرشيّة لديها مجموعتها على الواتسأب ومكوّنة من كهنة الأبرشيّة هذه. أوّلاً أنا حاضرٌ لأيّ كاهن يبعث لي برسالة على وسائل التواصل الإجتماعيّ، وثانيًا يشعر الكاهن بالحرّيّة في إرسال ما يبغي المشاركة به مع المجموعة، وهذا الأمر جعل الكلّ مرتاحًا. لماذا؟ تعرفون بأنّه يمكن أن يحصل خلافٌ بين أحد أبناء الرعيّة والكاهن، وفي هذه الحالة يلجأ العلمانيّ للأسقف، وهذا من حقّه، ويعرض المشكلة من وجهة نظره، ويتفاجأ إذ أكون على اطّلاع بالموضوع إذ أنّ الكاهن أبلغني به على الفور عبر الواتسأب. هذا الأمر ساعد العلمانيّين على محاولة حلّ الإشكاليّة مع الكاهن نفسه، واثقين أنّ الأسقف على علمٍ بما يجري، فارتاح الجميع لهذا الوضع وتماسكت العائلة بعضها ببعض.
وبما أنّنا ذكرنا فعاليّة وسائل التواصل، وأنتم تعلمون بأنّني أعطي دروسًا “أونلاين”، وقمنا بمشروع ضخم مع كليّة الكسليك جمعنا فيه أربعة أقطار العالم. كان هدفنا الوقوف إلى جانب مسيحيّي العراق الذين هُجّروا ومسيحيّ بلدان عربيّة أخرى، فحاولنا البدء بالدروس في اللاهوت “أونلاين”، وكان عدد الطلاّب كبير جدًّا والجوّ بين الجميع أكثر من رائع. هذه البداية تطوّرت مع الوقت، واليوم أوجدنا برنامجًا للمضيّ قدمًا في عالم “الأونلاين” لدول الخليج، كما أنّ المجلس الرسوليّ العلمانيّ في لبنان يُنشّىء على هذه الموضوع، وها نحن نحضّر لعمل عبر الإنترنت مع معهد السكاكيني في مصر.
لديكم إختصاص في البيبليّة، أي الكتاب المقدّس، ولديكم فيديوهات تتحدّثون فيها عن الحياة الروحيّة، ولغتكم مقرّبة جدًّا للشباب ومحبّبة لديهم، فالشباب أحيانًا لا يملك مفتاح قراءة الكتاب المقدّس وبخاصّة العهد القديم. لربّما تكون اللغة عائقًا ولغة الوعظ بالتحديد، فما رأيكم؟
على لغة الوعظ أن تتجدّد بكلّ تأكيد. لِلّغة تأثيرُها في كلّ الميادين. إنّها الأداة الأساسيّة للتواصل وعلينا أن نتدرّب ونتعلّم حتّى نعرف إيصال فكرتنا للآخر. أمّا بالنسبة إلى الكتاب المقدّس فنحن نعرف بأنّه كلمة حياة وهذا إيماننا، هو كلمةٌ حيّة لكلّ وقت ولكلّ العالم. إن لم أعرف كيف أوصله للآخرين، فهذا يعني أنّني لم أفهم النصّ. سأقول، بين قوسين، بأنّني تعلّمت عيش الكتاب المقدّس من خلال روحانيّة الفوكولاري، تعلّمت بأنّ الآية تُعاش، في حينه تصبح هذه الكلمات مشروع حياة، وتبدأ أنتَ تستقي من الكتاب المقدّس وتهرع لتنهلَ منه. في هذه الحال، ما عدت أنتظر أحدهم حتّى يقول لي إقرأ في الكتاب المقدس. صرت أبغي ذلك من تلقاء نفسي لأنّني أفرح به وأحيا به وأكون أنا الرابح.
حين تخصّصت عند اليسوعيّين في الغريغوريّه في روما إلتقيت بأستاذين غيّرا حياتي: الأوّل، سيّدة علمانيّة، من كبار وأهمّ إختصاصيّي الكتاب المقدّس، اسمها “برونا كوستاكورتا”، والثاني، هو المشرف على رسالتي في الدكتوراه، وهو كاهن يسوعيّ، اسمه “ساندياغو بروتون”. إليكم هذه الحادثة المعبّرة: في إحدى المرّات توقّفت عند كلمةٍ جدّ أساسيّة في أطروحة الدكتوراه والتي كنت في صدد إعدادها. لم أترك سبيلاً إلاّ ولجأت إليه حتّى أجد مكان تلك الكلمة في النصّ. عملتُ أكثر من عشرين يومًا وكتبت ١٢ صفحة وحين رآهم أستاذي قال لي: “لم أفهم شيئًا”. فقلت “ولا أنا، ماذا نفعل؟ نعرف جيّدًا أنّ تلك الكلمة أساسيّة ومن دونها نفشل”. كنت مرعوبًا أمّا هو فكان هادئًا تمامًا وأضاف: “هل ذهبت بهذه الأوراق أمام بيت القربان وصلّيت؟ لم أكن أتوقّع ولو للحظة أن يقول لي البروفسر هذا الكلام! قلت لا، فأردف قائلاً: “لذلك تعثّر كلّ عملك، إذهب الآن وقم بالتصليحات المؤاتية. وهكذا كان. تعلّمت من هذين العالِمَيْن بأنّ الكتاب المقدّس ليس للتحليل الفكريّ، بل هو كتابُ حياة.
لذا أردّد أنّه من الضروريّ امتلاك الأدوات حتّى نعرف توصيل أيّة كلمة، ونفهم الكلمة إذ نحياها، فهي كلمة تعطي الحياة. كما ذكرتم، أنا متخصّص بالعهد القديم، وأودّ أن أقول بأنّ أكثر السهرات الإنجيليّة التي نقوم بها مع الشباب تدور حول العهد القديم. سوف أضيف كلمةً حول أهميّة العهد القديم معطيًا هذا التشبيه: لو ورثت اليوم من أهلي مئتي ألف جنيه، هل أستعمل مئة ألف وأهمل المئة ألف الأخرى؟ بالطبع لا! لأنّني أنا المستفيد، أنا المستفيد من عهدَيْ الكتاب المقدّس.
قال يسوع جئت لأكمّل. العهد القديم هو البداية، لذا يمكنني القول بأنّ من لا ينطلق من العهد القديم يكون كمن يبني عمارةً مبتدئًا من الدور الأخير بدل الدور الأوّل. من أقوى نصوص العهد القديم نصّ قايين وهابيل، أخ يقتل أخاه، ومن خلاله يعلّمني الله أنّه إن لم تحبب أخاك فلا حياة لك، فكيف لي أن أحبّ يسوع إن لم أعش ذلك؟ قال يوحنّا: “من لا يحبّ أخاه الذي أبصره، كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره؟”، هو يعيدني إذًا إلى نصّ العهد القديم.
نعم، هناك صعوبةٌ بقراءة العهد القديم بسبب لغته القديمة، ولكنّ الكنيسة اليوم، وعلماء الكتاب المقدس، يقدّمون كلّ ما يلزم حتّى نفهم النصّ فهمًا عميقًا، وهذا ما أحاول فعله. إنّ مفاتيح قراءة العهد القديم لا تتعدّى العشرة مفاتيح، وحين أعرفها أجد النصّ سهلاً للغاية. إحدى معضلات العهد القديم العنف الموجود فيه وكميّة الدماء التي تُراق… الموضوع بمجمله قائمٌ على مفتاح واحد، ففي العهد القديم لم يستطع الكاتب المُلهَم أن يميّزَ ما بين الخاطىء والخطيئة، ولكن هل أنا اليوم في ٢٠٢٢ أميّز بينهما؟ لقد فهم الكاتب المُلهَم من الله أنّ عليه أن يُلغيَ الزنى من حياته، فماذا لغى؟ لغى الزاني. فهم أنّه يجب إلغاء السرقة، فماذا لغى؟ لغى السارق، فهم أنّ عليه ألاّ يكون وثنيًّا، فماذا لغى؟ لغى الوثنيّين. ستسألني هل بالتالي الكتاب المقدّس كلّه أخطاء؟ طبعًا لا، فقد أُثبتَ علميًّا أنّ كلّ المعارك التي يتكلّم عنها العهد القديم إمّا لم تحصل البتّة، وإمّا خسروها وادّعوا ربحها. كلّ الإبادات اللي نقرأ عنها وكلّ النصوص الدمويّة، لم تكن إلا نصوصًا تعليميّة. ماذا يعني ذلك؟ سأعطي مثلاً بسيطًا: أنت متزوّجٌ وأبٌ ولديك أطفال، واضُطررتَ للسكن في مكانٍ مضطرب، هل ستسمح لأولادك باللعب خارجًا مع باقي الأولاد؟ بالطبع لا، لأنّك سوف تخسرهم. للحفاظ عليهم ستقول لهم: “لو شفتكم تلعبوا مع حد بالحاره بكسر لكم إجريكم”. أنت تستعمل جملةً قاسية، ولكنّك لن تكسرَ يومًا رِجلَ ابنتِك أو ابنِك. لغة الشرقيّين حادّة. نقول في اللبناني “تقبرني” حتّى نعبّر عن مدى حبّنا للآخر، وما معنى “تقبرني” باللغة الأجنبيّة؟ معناها أن تحفر حفرةً وترميني فيها وتردمها بالتراب. المشكلة أنّ الغرب قرأ العهد القديم بمنطق غربيّ، تعجّب ممّا يقرأه، فنحن الشرقيّون أكثر من عبّر عن الأمور بطريقةٍ مضخمّة. هذا مفتاح لفهم النصوص في العهد القديم.
كيف تنظر لدعوة قداسة البابا فرنسيس لهذا السينودس وتحقيقه على أرض الواقع؟
هو سينودس جديد من نوعه، للمرّة الأولى يكون السينودس عن السينودسيّة. إنّه جديد، ويتطلب منّا أن نكون جسدًا واحدًا، ونحن لا نعرف من أين نبدأ وماذا نقول؟ لربّما بدا ذلك مشكلة في بادىء الأمر، لكنّه يساعدنا على التعمّق بهذه الفكرة حتّى تختمر فينا شيئًا فشيئًا ورويدًا رويدا، والدليل بأنّ الرويّة مطلوبة منّا هو أنّ قداسة البابا أعطى لهذا السينودس ثلاث سنوات بدلاً من اثنتين. هي فكرةٌ جديدةٌ لكلّ الكنيسة بالمطلق، وحسب رأيي، إنّ البابا ينتظر من جرّاء التفاعل الذي سيحصل في ما بيننا، أن يقول لنا الروح القدس كيف على كنيسة الألفيّة الثالثة أن تكون. فلا نجزع، بل لِنَعشْ هذا السينودس بحرّيّة أولاد الله، بهدوء، وبفرح المسيح، مستعدّين لكلّ شيء، وسوف نرى يسوع ينفخ بشراعنا ويُبحر بنا من دون أن نعرف إلى أين، كما جاء في نصّ آشعيا النبيّ “ها أنذا فأرسلني”. لا يقول النصّ إلى أين، ولا يعرف آشعيا إلى أين يذهب، ولكن إن كنتَ تريدني أن أذهب فها أنذا. لنكن على غرار آشعيا فنقبل بالقيام بهذه الرحلة العائليّة.
ولكن بأيّ استعداد كان آشعيا في تلك اللحظة؟ لكي نقدر أن نبني السينودس نحن بحاجةٍ للإصغاء والتواضع.
إصغاء وتواضع!
هذا السينودس هو حول السينودسيّة، ولا أحد يعرف أكثر من ذلك لذا بدأنا نصغي … تواضع، موضوع السينودسية أساسيٌّ جدًّا في كنيستنا، ولأوّل مرّةٍ نشعر وكأنّنا لا نعرف حتّى المُسلّمات. إنّ السينودسات التي تحدث كلّ سنتين في الكنيسة علامةٌ بأنّ الكنيسة تُعيد قراءة ذاتها، والسينودس الأخير بحاجةٍ إلى إصغاء وتواضع. لننطلق بهذه الرحلة، لا كفرضٍ علينا إتمامه حتّى نحظى بعلامة، بل برويّةٍ وبحرّيّة أبناء الله.
إعداد ريما السيقلي