أذكُرُ قبل كلّ شيءٍ العطاءَ المُتبادَل الغنيّ والرائع، بين الشباب الآتين من كلّ بلدان العالم، والأخوّة التي اخْتَبَروها بفرحٍ عظيم، هي أُخوّةٌ مَنْبَعُها الله-الآب. كان البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني يشعّ هذه الأبوّة التي جَعَلَتْ من تجمُّع الشباب باختلافهم نموذجًا لإنسانيّةٍ مُتّحدة، تتخطّى الحواجز الإديولوجِيَّة والثقافيّة. منذ فترة، خلال الخمسين سنةٍ الماضية نحن نشهدُ فِقدانَ أهمّ العقائد والقِيَم، ونرى العَيْشَ المُشترَك يتمزَّق بِفِعْلِ حروب الإخوة، وحروب الإبادة والصراعات المختلفة المُغلفّة بأقنعةٍ دينيّة. وفي الحياة اليوميّة ضَعُفَتْ صورةُ الأب، كما ضَعُفَ دورُ القادة الجديرين بالثقة… في هذا الإطار ظهرت بوضوح، في شخص البابا يوحنّا بولس الثاني، صورةُ “الأب” عاكسةً معاني الأخوّة والإنسجام والوحدة التي حملها يسوع على الأرض.
• كيف تقرأ اختيارَ كراكوفيا، مسقط رأس البابا يوحنا بولس الثاني لإنْعِقاد الأيّام العالميّة للشباب؟
في الواقع، كلُّ تجمُّعٍ عالميٍّ للشبيبة هو بمثابة كلمةٍ من كلمات الله، تُناسِبُ الفترة التي نعيشُها. كلمةُ زَمَنِنا اليوم قد حَدَّدَها البابا فرنسيس ألا وهي الرحمة. الرحمةُ لا كموضوعٍ يُعالجُ بالإطروحات أو الخطابات، بل رحمةٌ تتجسّدُ أعمالاً حِسيَّة. هذه الأفعالُ تقدّمُ أجوبةً، تفتحُ آفاقًا وتُعيدُ الرجاء لعالم اليوم، لا عالم الشباب وحسب، بل عالمنا الذي يتخبّطُ بالشكوك والخوف وتضارُبِ وجهات النظر والمصالح والشعور بالترك من قِبَلِ من يُفترَضُ أن يقودوا شعوبهم.
لقد شُيّدَ في كراكوفيا مُؤخّرًا نصبان تذكاريّان، يرمزان إلى الرحمة الإلهيّة، من وَحْيِ حياة القدّيسة فُوسْتِينا والقدّيس يوحنّا بولس الثاني، بَطَلَيْ الرحمة. صحيحٌ أنّ هذه المزارات والمعابد من حجر، لكنّها أماكن تساهم في بناء معابدٍ من دمٍ ولحم، من قلوبٍ وعقولٍ قَوْلَبَتْها الرحمة. إنّها مساحاتُ حرِّيّة، بعيدًا عن ضغوطات المجتمع، يعودُ فيها الإنسانُ إلى ذاته، ويُمْكِنُهُ أن يُوَلّدَ الرحمةَ في قلبه الجافّ أو القاسي، كما في قلب المجتمع القاسي.
• عند زيارته لجزيرة ليسبو اليونانيّة، تكلّم البابا فرنسيس عن “إفلاس الإنسانيّة والتضامن في أوروبا” تجاه أزمة النازحين. ماذا يُمكنُ أن نفعلَ لِنَسْتَجيبَ لنداء البابا هذا؟
في ليسبو، لم يتكلّمْ البابا كثيرًا لكنّه فَعَلْ. فتح الأبوابَ لإثْنَيْ عشر لاجئًا. إنّها نقطة ماءٍ في بحر اللاجئين. لكنّ البحرَ مؤلّفٌ من نقاط ماءٍ كثيرة. لِذا، على كلّ واحدٍ مِنّا أن يُقدّمَ نقطته. تَعِبَ الناسُ من الكلام، لكنّهم ينظرون بانتباهٍ إلى الأعمال، ويجذبهم من يعملُ ناشطًا من أجل عالمٍ أفضل. إذا قام كلٌّ مِنّا بما عليه، حتّى القليل القليل، يُمكننا أن نؤثّرَ على أصحاب القرار ليختاروا بجرأةٍ وحذرٍ وعقلانيّة، سياساتٍ مُنْفَتِحة، قادرةً أن تُنْتِجَ حُلولًا طويلة الأمد.
• هناك نقصٌ واضحٌ في عدد الدعوات في الكنيسة. كيف يستطيع الشباب، في عالمنا الإستهلاكيّ أن يتركوا كلَّ شيء للتكرُّسِ الكُلّيِّ لله؟
إنْ نظرنا إلى الكنيسة نظرةً شاملة، نرى أنّ الدعوات تولَدُ بأغلبها في الرعايا حيث يشهد الكاهنُ أنّه سعيدٌ كَوْنه كاهنًا، وهو يعيش أوّلاً كمسيحيّ. تولدُ أيضًا الدعوات داخل الجماعات التي تعيشُ كلمة الله، وتُطَبّقُها، فتطبع تصرّفاتِهم ونَمَطَ حياتهم؛ كذلك الجمعيّات والحركات الكنسيّة التي تضمُّ العائلة التي لا تكتفي بالرباط العائليّ الطبيعيّ، بل تحاول أن تحافِظَ على حضور يسوع في وسطها. في كلّ الأحوال تنضج الدعوة خلال مسيرةِ صداقةٍ مع يسوع، قد يتخلَّلُها تَعَبٌ وصِعابٌ، لكنّها دائمًا أخّاذةٌ ومثيرة.
إعداد حياة فلاّح