لسنا بمستعمرة!
بطريرك الكنيسة الكلدانيّة الكاثوليكيّة في العراق والعالم الدكتور الكاردينال لويس ساكو حائزٌ على شهادتي دكتوراه في علم آباء الكنيسة من روما وفي تاريخ العراق القديم من السوربون، وعلى ماجستير في الفقه الإسلاميّ وعلى أوسمة عدّة وله ما يزيد عن مئتي مقال وعشرين كتابًا في مجال اللاهوت والدّين، هو رجل الحوار بامتياز!
والجدير بالذكر أنّه وفي كلّ مؤلّفاته، أي في العشرين كتابًا، تردّدت الكلمة “حوار” باستمرار، قال: “الحوار جزءٌ من حياتي، عليّ أن أعرفَ كيف أحاور وأعرفَ كيف أتهيّأ للحوار. الديانة هي حوار، والإنسان هو شخصٌ مجتمعيّ، يجب أن يعرفَ كيف يتحاور. أشجّعُ المطارنة والكهنة أن يُرسلوا أشخاصًا ليدرسوا ويتخصّصوا. علينا أن نعرفَ الناس الذين نعيشُ معهم ونعرف بالتالي الإسلام بشكلٍ صحيح”.
أن نعرفَ الآخر حتّى نعرف أن نحبّ، فلا مصيبة أعظم من الجهل.
وتابع: “أحبّ الكنيسة والناس، الناس من دون تمييز، حين أساعدُ شخصًا مسيحيًّا أساعد شخصًا مسلمًا، لا أفكّر هذا كلدانيّ أم لا، فرسالتي هي للجميع. إنّ الكاهن كاهنٌ للكلّ”.ولمجلس كنائس الشرق الأوسط الذي انعقد في شهر مايو الحاليّ قال: “علينا ترسيخ ثقافة الحوار، ولكن قبل الحوار علينا أن نعزّز ثقافة احترام الآخر، فالإحترام هو أساسُ العيش المشترك أمّا الحوار فهو أسلوب. إنّ مجلس كنائس الشرق الأوسط هو المؤسَّسة الوحيدة التي تجمع كلّ المسيحيّين. أتمنّى أن نخرجَ من الذهنيّة الضيّقة، أي هذا لي وهذا لك، أن نخرجَ من الأرضيّة الطائفيّة ونعملَ كفريقٍ واحد، علينا أن نحترم كنائسنا وهويّاتنا ورئاساتنا. العقليّة الطائفيّة ليست بمسيحيّة! أمامنا تحديّاتٌ كبيرة، وإن كنّا كنائسَ معزولة لا نستطيع مواجهتها. علينا أن نعملَ معًا ونثبِّتَ وجودنا ونحافظَ على التواصل في ما بيننا، ونؤمّن استمراريّتنا مع مواطنينا، إخوتنا في العيش المشترك، في الحقوق والمساواة… يجب خلقُ بيئةٍ للعيش الكريم للمسيحيّ. هناك قلق، هناك خوفٌ وتهميش، وإقصاءُ قوانينَ تُحِدُّ من حريّة المسيحيّين، والكثير منها يعود للزمن العثمانيّ. يجب أن نطالبَ بسنِّ قوانين جديدة، بخاصّةٍ بما يتعلّق بالأحوال الشخصيّة. يجب أن لا نخاف ممّا هو جديد، فالدّيانات منفتحةٌ لكلّ ما هو صائبٌ وسليم.
نحن كنائس، ولسنا بمستعمرة. والحوار الإسلاميّ المسيحيّ مهمٌّ جدًّا، ولكن كلُّ شيءٍ متوقّفٌ على أشكال الحوار، على الأسلوب الذي نتحاور فيه، علينا أن نتهيّأ ونهيّىء أشخاصًا حواريّين”.
إنّ الطائفة المسيحيّة الكلدانيّة الكاثوليكيّة هي أكبر الطوائف، ولغتها كلدانيّة- آراميّة سامية قريبة من العربيّة. لديها مئتَي كنيسة ودير. وقد ساهم غبطة الكاردينال دائمًا بأدوارٍ إيجابيّة، بهدف معالجة القضايا العراقيّة العالقة، ليس كرجل دينٍ وحسب، بل كمواطنٍ مؤمنٍ يدعو لتقدُّم بلاده، بمسيحيّيها ومُسلميها وأديانها الأخرى! لقد ناشد الكاردينال أعضاء البرلمان العراقيّ لإنتخاب رئيس جمهوريّة وحكومةٍ لمواجهة المصاعب الجمّة التي يعاني منها العراقيّون، فكيف يصف الوضع اليوم في العراق وبماذا يأمل غبطته؟
“كلمة إسلام تعني من سلًم وجهه إلى الله، أي تسليم الذات لله. المسلمون هم سنّة وشيعة، والمسيحيّون هم كاثوليك وأورثوذكس وبروتستانت، نحن نحمل إسم المسيح الذي هو محبّة، محبّة تذهب لدرجة محبّة أعدائنا. هذه هي القِيَم التي علينا أن ننادي بها.
على العقليّة الطائفيّة أن تزول، فالمُحاصصة لا مستقبل لها. العالم يسير عكس ذلك، الجميع يريد أن يتّحد، لكنّهم ومع الأسف يُسَيّسون الدّين، ويستعملون الغطاءَ الدينيّ لكأنه شرعيٌّ لتبرير هذه التصرّفات التي ليس لها أيّة علاقة بالدّين، فالدّين لا يُؤسِّسُ دولة. ليس هناك من دينٍ لديه برنامجٌ سياسيّ. الدّين رسالةٌ جامعةٌ للكُلّ. فالإسلام دينٌ متسامح، وليس كما جعله البعض إسلاما متطرّفًا. نحن أمام تحدّيان كبيران، الجانب السياسيّ والتطرّف الذي أصبح ظاهرة، وفي الخارج عدم مبالاة بالقيم الدينيّة، وهذا جدُّ مخيف ومسيءٌ للمسيحيّة. الحرّيّة هي حرّيّة مُلتزِمة وليست بحرّيّةٍ فوضويّة. كلّ التشريعات التي تقوم بها الدُوَل من حرّيّة الطلاق غير المسؤولة، والإجهاض والموت الرحيم والمساكنة… هي لصالح من؟ ليس لمجتعنا طبعًا، بل هو لتفكُّكِ المجتمع! والإنسان أضحى إنسانًا إستهلاكيًّا لا غير! إنّ الجانب الدينيّ أساسيٌّ في حياة الإنسان والمجتمع، نحن بحاجةٍ لرادعٍ ضميريٍّ للأمور، وإن لم يوجد… فإلى أين؟ وهذا هو المخيف”.
ما الكلمة التي توجّهونها اليوم لمسيحيّي العراق الباقين في وطنهم لتشجيعهم على عدم المغادرة؟ جاء ردُّهُ سريعًا إذ تحدّث عن زيارة البابا للعراق وقال: “كانت هذه الزيارة جدُّ مهمّة، وكانت خطاباتُه ولقاءاتُهُ تدور حول الأخوّة والتنوّع والإحترام والغفران في مجتمعٍ قَبَليّ! كان له لقاءاتٌ بالسياسيّين، وكانت هناك علامات رجاءٍ كثيرة كقول الرئيس العراقيّ: “المسيحيّون هم ملحُ الأرض”، وكذلك اللقاء مع السيّد علي السيستاني الذي قال: “نحن جزءٌ منكم وأنتم جزءٌ منّا، أي نحن جسدٌ واحد”. هي كلماتٌ تعني الجميع! أمنيتي ألاّ يكون ذلك فرديًّا إنّما جماعيًّا! تحدّث السيستناني خلال اللقاء عن الدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته، وتكلّم البابا عن الأخوّة والتسامح. بالرغم من صعوبة المشي التي يعاني منها السيستاني، وقف عند دخولنا، وكان متأثّرًا بهذا اللقاء فرافقنا إلى الباب وأمسك بيد البابا وكأنّه لا يريد أن يتركها. كان اللقاء جميلاً جدًّا، وجاء بعده لقاءُ أور، لقاءٌ ما بين الديانات وصلاة جماعيّة، كما في أسّيزي تمامًا، حضورٌ متنوّع، وكلامٌ راقٍ، كما كان للإعلام دورٌ بارزٌ في خلق هذه الثقافة. وقبل مغادرة البابا أرض العراق، سألته إن كان سعيدًا بهذه الزيارة، فقال إنّه يحمل لاجئي العراق ويحمل العراق في قلبه. وبعد مرور سنة رحنا وشكرناه مجدّدًا لمجيئه إلى بلدنا، فكرّر الكلام نفسه وقال: “أنا لا أنسى زيارتي للعراق، أحمله في قلبي”.
العراق جذور الإيمان، إيمان ابراهيم، أبونا في الإيمان الذي يجمع حوله الجميع. لنجذب الجميع وندعوهم للحدّ من نتائج جراح الشوكة التي تحاول أن تجرِّحَ فينا وتفصلَ بيننا”.
قال البابا فرنسيس في رسالته تحت عنوان: “بناء المستقبل مع المهاجرين واللاّجئين”، إنّ مشروع الله شاملٌ بشكلٍ أساسيّ، ويضع في المحور سكّان الضواحي الوجوديّة، ومن بينهم العديد من المهاجرين واللاّجئين والمشرّدين… وأضاف: “إنَّ التاريخ يعلّمنا في الواقع أنّ مساهمة المهاجرين واللاّجئين كانت أساسيةً للنموّ الاجتماعيّ والاقتصاديّ لمجتمعاتنا، وأشار إلى أنّ “وجود المهاجرين واللاّجئين يمثِّل تحدّيًا كبيرًا، ولكنّه أيضًا فرصةٌ للنموّ الثقافيّ والروحيّ للجميع”. كيف ترون واقعيّة هذا الأمر بالنسبة إلى المهجّرين العراقيّين؟ كيف يستطيع المهجّرون الذين فُصلوا لأسبابٍ قاسيةٍ عن أرضهم وأهلهم ومجتمعهم وثقافتهم وحضارتهم تجاوز المِحَن التي دفعتهم الى الهجرة؟
هجرة المسيحيّين للخارج سببُها الإضطهاد والتهميش ليس في العراق وحسب، إنّما في كلّ بلداننا العربيّة، كأنّ المسيحيّ مواطنٌ من درجة ثانية. يجب أن نكافحَ حتّى يعودَ العراقيّون ويجدوا بيئةً ملائمةً للعيش الحرّ والكريم. أنا مواطن، إن كنتُ مسيحيًّا أو غير مسيحيّ، هذا لا يعود للدولة، فالدولة تنظّم حياة المجتمع وليس الحياة الدينيّة. نطالب بدولةٍ مدنيّةٍ وليس دينيّة. تقدّمت أوروبا بسبب عزل الدّين عن السياسة. لكن علينا المحافظة على القِيَم الروحيّة، القيم الدينيّة، على الثوابت، فمن دونها لا نستطيع شيئًا.
الدور المسيحيّ منذ القدم هو دورٌ ثقافيٌّ وإجتماعيٌّ تنمويّ، بالمؤسسات والمدارس والمستشفيات، والأديرة، وعلينا إبراز كلّ هذا الغنى! حتّى اليوم هناك نخبٌ مسيحيّةٌ جدُّ فاعلة، لكن على المسيحيّ أن يتحلّى بالشجاعة ويقضي على شعوره بأنّه مُهمل، بل يكون عنده ثقةٌ ويطالب بحقوقه.
المرجعيّات الدينيّة كلُّها تطالب بمدنيّة الدولة. نريد وطنًا! الوطن مختطف! الشرّ لا مستقبل له، الخير يأتي وإن كان تقدُّمُه بطيئًا!”.
وبجملةٍ مقتضبة خاطفة أجاب بقوله الحكيم على هذه العناوين:
السيستاني: “أن يبقى على الحكم الرشيد”
مسيحيّو العراق: “هذه أرضهم وهذه هويّتهم. تواصلوا بالرغم من كلّ التحدّيّات”
إكليروس العربيّ: “أن يفكّروا بأنّهم للكلّ”
مسيحيّو مصر: “لهم وزن ولهم دور يجب أن يلعبوه تجاه الشرق الأوسط، المسيحيّ هو للكلّ”
الشباب العربيّ: “لا يكونوا إنتهازيّين ويتحمّلوا المسؤوليّة، فيكونوا شجعانًا من أجل العمل نحو عالمٍ أفضل”.
مقتطفات من مقابلة أجريتها مع غبطته بالتعاون مع فريق جريدة حامل الرسالة
إعداد ريما السيقلي