لبنان يشهد مجدّدًا ما حصل منذ عدّة أعوام، منذ عام ال٢٠٠٦، ها هو السيناريو يتكرّر!
من كان يخيّلُ إليه أنّه، وبعد سنواتٍ قليلة، سيفتح نفس المكان أبوابه لاستقبال الأصدقاء النازحين من الجنوب ومن منطقة الضاحية الجنوبيّة في بيروت، كما فعل سابقًا.
ومن كان يخيّلُ إليه أنّ صدى تلك الكلمات في تلك الآونة، لا زالت تُردِّدُهُ حجارة المكان: “الخوف هو عكس المحبّة. لا نقدر أن نُحبّ حين نخاف. هنا وفي هذا المكان لسنا خائفين، لا من ذاتنا ولا من الآخرين، لذلك نستطيع أن نُحِبّ ونُحَبّ. حوار الحياة الذي نعيشه ونشهد له مباركٌ من الله”.
كما هذه الكلمات: “شعرت أنّ أصدقاءنا المسيحيّين ليس فقط يشاركوننا الوطن نفسه والإنسانيّة ذاتها، ولكن هم إخوتنا بالإسلام ونحن إخوتهم بالمسيحيّة، لأنّنا إخوةٌ في الله. فالمحبّة، والرحمة والإيمان وكلّ شيءٍ إلهيّ يجمعنا”.
نعم، وقعت الحرب ثانيةً وقد سبقتها حربٌ نفسيّةٌ على اللبنانيّين، حربٌ شُنّت بالتهديد والوعيد، وراحت بعدها تُنَفَّذُ وتُلهِبُ الأرض بغاراتها المتتالية، فانْهالَتْ القذائف والصواريخ تحصد دون رحمةٍ دمارًا وضحايا وذعرًا وعدمَ أمان. حربٌ شرسةٌ وقاسية، لكنّ الإيمان يبقى بمشيئة الله التي هي خيرٌ ومحبّةٌ للبشر، وبأنّ للخيرِ الكلمةُ الأخيرة، وبأنّنا نقدر أن نغرف الخير من الشرّ، هذا الشرّ الذي طال الأحياء الشعبيّة في كلّ محافظات لبنان، لِيَجعلَ اللبنانيَّ يعيشُ في كابوسٍ جديد.
وصل الضيوف محمّلين بمخاوفهم وبالصدمة التي عاشوها في قراهم وأحيائهم المستهدفة. نزحوا وسط آلاف السيّارات الهاربة من القصف. ألطرقات مزدحمةٌ والقرى خالية. ساعاتٌ وساعاتٌ قضوها على الطرقات ليصلوا إلى مركزٍ آمنٍ يستضيفُهم، والأمرُ ليس سهلاً البتّة.
لكنّ الشعب اللبنانيّ الذي وُجد ليكون محطّةَ سلامٍ في هذا العالم، وجسرَ وئامٍ بين مختلف الشعوب، وخيرَ رائدٍ للحوار الصادق، هذا الشعب الذي لطالما نشر الثقافة والإبداع، هذا الشعب عرف كيف يتعامل مع الوضع المفاجىء بشكلٍ إنسانيٍّ رائعٍ كعادته: مساعداتٌ، إستقبالٌ للجميع، إعاناتٌ شتّى… فالمنازل مفتوحة، والقلوب مفتوحة… وأهلُ العزم والنخوة والرقيّ جاهزون دومًا، وهذا أمرٌ إعتيدَ عليه، أصلاً “بيكفي إنّك لبناني”.
ألجميعُ في سباق محبّة، سباقٌ في المشاركة بالخيرات ثمّ بتنظيم الحياة اليوميّة، من طعامٍ ومسكنٍ واهتمامٍ بالأطفال، يقول هادي: “أملُنا أن نعود إلى منازلنا قريبًا، فالوضعُ صعبٌ علينا. مع بداية القصف أُجبِرْنا على الهرب وأَتَيْنا إلى هنا، إلى هذا المركز للمرّة الثانية. كنّا نقول الذكرى لا تُعاد، ولكنّ الكرّة عاودت نفسها مرّةً أخرى. نأملُ بأن تُحلَّ الأمور، وإنْ بالطبع نحن هنا مرتاحون جدًّا، وبأمان. نجهّز الآن الملعب وننظّفه حتّى يكون مؤهّلاً لِلَعِبِ كرة السلّة، فيقضيَ الأولاد والشبّان بعض الوقت الممتع. نساعد بعضنا البعض في التنظيف والأشغال كافّة، نحن يدٌ واحدة”.
نعم، فلطالما تشاركنا الأفراح والأحزان، الآمال والصعوبات، الإحتياجات والصلاة. العلاقة بسيطةُ وصريحة بين الجميع، نُسجَت في الحياة اليوميّة، فنمَتْ تجربةٌ حقيقيّةٌ للأخوّة، دون فلاتر أو تحيّزات.
صديقٌ مسلمٌ كان قد قال لنا سابقًا: “جسرُ المحبّة بيننا لا يستطيع أحدٌ تدميره. فمن يزرعُ الفِتَنَ والحروبَ لا يعرف أنّه يجمعُ اللبنانيّين ويُوَحِّدُهم أكثر من أيّ وقتٍ مضى”.
كم لا يزال وقع هذه الكلمات حقيقيّ، كما هي كلمات الوزير السابق الإمام ابراهيم شمس الدّين الذي قال: “نحن مثل جلد الجسم لبعضنا البعض. لا أحد يستطيع أن يخرج من جلده وإلاّ مات…مثلُ النهر الوفيّ لمجرى المياه، هكذا هم اللبنانيّون لبعضهم البعض، ليس بإمكانهم أن يفترقوا، وإن حصل ذلك حينها تحلّ فعلاً الكارثة”.
اليوم ومن قلب المأساة تنمو بذرةٌ جديدةٌ للأخوّة، تحت حماية مريم المحبوبة من الكلّ، مسيحيّين ومسلمين، مريم التي تعمل ولا تتخلّى عن أبنائها، فتَمُدَّهم بالرجاء والحياة، والحياة هذه، التي تولد وتولد من مخاض الألم هي أقوى من الموت دائمًا.
ريما السيقلي