لا “مِنَ الأعلى” ولا “مِنَ الأسفل”
نسمعُ ونقرأ كثيرًا عن “الثورة الرقميّة” وهي فعلاً “ثورة”. في عالمٍ يعدُّ ٧،٧ مليارًا نسمة، هناك ٢٥ مليارًا من الأجهزة الإلكترونيّة، بحسب معطيات سنة ، تشكّل شبكةَ تواصل عملاقة تغطّي الكُرَة الأرضيّة. يُحدِثُ هذا الواقع تغيّراتٍ إجتماعيّةٍ وإقتصاديّةٍ مؤكّدة، لا بَل “هندسةً” عالميّةً جديدة، تَطرحُ أسئلةً كثيرةً حول مفاهيمَ وأعرافٍ تقليديّة، وأيضًا طُرُق الإدارة والتواصل والحَوْكَمة في مجتمعاتنا. فهل تتناسبُ القرارات التي تأتي “من فوق” مع الواقع الجديد الذي نتكلّم عنه؟ ماذا تعني اليوم الطريقة التقليديّة الهرَميّة لنقل المعلومات وَوَضْع مقرّرات الحياة العامّة؟ نرى الملايين من الناس في الساحات يطالبون بِدمقراطيّةٍ أكبر، وأن يكون لهم دورًا فعّالاً في مكانِ اتِّخاذ القرارات أو الإجراءات، داخل المؤسّسات وفي السياسة، التي يشعرون أنّها بعيدةٌ عن حياتهم. إذا كان القانون يَسري عليّ فأنا لا أقبلُ أن تأخُذني أقلّيّة، ولا حتّى أغلبيّة حيث لا أريد!
ربّما علينا أن نُحدِّدَ معنى السلطة أو النفوذ. تقول الكتبُ أنّ السلطةَ هي موقعٌ مُتَمَيّزٌ داخل علاقةٍ غير متوازنة، حيث يظهر نفوذ القائد في قدرته على جَعْل الآخرين يَتَكيَّفون مع ما يُقرّرُه، لمصلحتِه. يُنقَلُ عن هنري فورد، مُصنّع سيّارات “فورد”، أنّه تساءل يومًا: “ما لي وعُمّالي؟ كلُّ ما يهمّني هو ذراعَيْ كلِّ واحدٍ منهم. لا غير!”.
لنا بالطبع منطقٌ مختلفٌ ومفهومٌ آخر للسلطة كمسؤوليّة، مسؤوليّة مشتركة، في صِنعِ الأحداثِ واتّخاذ القرار، إنطلاقًا من كَوْنِنا، قبل كلِّ شيء، أبناءَ الله، إخوةً وأخوات. فلا تأتي القراراتُ “من فوق” ولا حتّى “من الأسفل”، بل من القناعةِ المشتركة أنّ كلّ إنسانٍ هو فاعلٌ أساسيٌّ في بناء العَيْش معًا.
لذا على مَنْ يتولّى المسؤوليّة، أن يعرفَ كيف “يستقبل” الآخرين وأفكارَهُم ويَسْتَنْتجَ العِبَرَ من خلال علاقاتِهِ معهم، حتّى يُوجِّهَ المشاريعَ والأعمالَ كلَّها لخَيْرِ مَنْ يَعمل معهم ومِنْ أجلِهم، أي للخير العام.
للتربية دورٌ مهمٌّ جدًّا في التنشِئة على المشاركة، بدءًا من المشاركة بالقلم أو الممحاة، وصولاً إلى تحقيق مشاريع مع الآخرين. هكذا ينمو الطفل، ثمّ الشابّ داخل جماعة، فيَتَمرّسَ على التبادُليّة الإيجابيّة الفعّالة ولا يخشى أن يَسْلُبَه الآخر “سُلطتَهُ” على قراره أو أفكاره. كما يختبرُ أنّه إنْ سَقطَتْ التبادليّة، تفكَّكت الجماعة. وإن تولّى مسؤوليّةً قياديّةً لا يُمكِنُ أن يلجأ إلى التخويف أو التضليل أو العنف، ولن يقعَ في اللامبالاة، بل يبحث دائمًا عن الحلول وعمّا هو أفضل معْ ومِنْ أجل الجميع.
أودّ هنا أن أذكُرَ، وعلى سبيل المثال، رئيسَ بلديّةٍ عَمِل مع المجلس البلديّ على وضع وتحقيق خطّةٍ مُكْتمِلةٍ لِحَلِّ مشكلة النفايات في بلدته، وذلك بالتدريب على الفرز في المدارس والمؤسّسات والبيوت السكنيّة، ثمّ تَوْضيبِها ونقلِها إلخ… لكن، مع تفاقم الأزمة الإقتصاديّة في البلاد، لم يَعُدْ يستطيعُ الكثيرون دفعَ الرسوم المُتوَجّبة، فوقَعتْ البلديّة في عجْزٍ ماليّ.
جَمَعَ المجلسُ البلدي السكّان لإخبارهم باسْتحالةِ المِضيِّ في مشروع رفْع النفايات. لم يقبَلْ أحدٌ بهذا القرار، بل تجنّد الجميع لإيجاد حلولٍ بديلة. إختار البعضُ أن يدفع الرسوم عن العائلات التي تمُرُّ في ضيق، بينما تخلّى أحدُهم عن اشتراكه ببعض القنوات التلفزيونيّة المُكْلِفَة كي يؤمّنَ الرسمَ البلديّ… هكذا استطاعتْ البلديّة إكمالَ عملِها، بفضل هذا التعاون، ثمرة سنواتٍ من المسؤوليّة المشتركة والتواصل وبناء روح الجماعة.
حياة فلّاح
Spread the love