قرأتُ يومًا عبارةً أعجبتني جدًّا، تقول إنّ الإنسان “مُبرمَجٌ” لِعَيْش المحبّة، أو أقلّهُ للعيش بعلاقةٍ مع الآخرين. لقد برهن العِلْمُ أنّ الطفل الذي يولدُ في بيئةٍ خاليةٍ من إمكانيّة التفاعل مع الآخر، يفتقدُ لعامِلٍ أساسيٍّ لِنُمُوِّهِ العاطفيّ والنفسيّ ـ الحركيّ (psychomoteur).
قد يتذكّرُ البعضُ مِنّا تلك الصور المُذهلة لأطفالٍ عاشوا في المياتم في عهد تْشَاوْشِسْكو في رومانيا. بعد الإطاحة بحُكْمِهِ وسقوطِ حائط برلين، جالت صُوَرُ هؤلاءِ الأطفال العالم؛ رأيناهم مَرْمِيّينَ في أَسِرّةٍ ذات قضبان، يهزّون جسدَهُم إلى الأمام وإلى الخلف بطريقةٍ أوتوماتيكيّة، لا ينظرون إلى أحد، يخافون حتّى إن اقترَبَ منهم أو حتّى ابتسَمَ لهم. يقول Boris Cyrulnik “أظهر الماسحالضوئيّ (scanner ) الذي أُجريَ لهم، أنّ هؤلاء الأطفال المُهْمَلين كلّيًّا مُصابون بضمورٍ في بعض المناطق من دماغهم، أي أنّ نُمُوَّها قد توقّف. ولكن، عندما سُلِّموا لعائلاتٍ او مؤسّساتٍ أَمَّنَتْ لهم بيئةً حاضنة، عادت هذه المناطق من الدماغ إلى النموّ بشكلٍ طبيعيّ!
نلاحظُ أيضًا الأهميّة المُتجَدِّدة التي يُوليها عصرُنا لحاجة كلّ إنسانٍ لجماعةٍ، صغيرةٍ أو كبيرة، يعيشُ في داخلها اختباراتٍ “تَنْحَتُ” شَخْصِيَّتَه. وكم ازدادت هذه الحاجة، مع مفهوم عائلةٍ بات يقتصر، بخاصّةٍ في المجتمعات المُسَمّاة متطوّرة، على الأمّ والأب والأولاد حصريًّا… وربّما ظاهرةُ التعلُّق بوسائِل التواصُل الإجتماعيّ تُعبّرُ أيضًا عن هذه الحاجة بالذات .
ومن المُلْفِتِ أيضًا، التطوّرُ الحاصِلُ في علم النفس الجَمَاعيّ الذي يُشكّلُ تقاطُعًا بين علم النفس الإجتماعيّ وعلم النفس الصحيّ. هناك نزعةٌ للإنتقال من منطقٍ يُركّز على الشخص وحده إلى منطق الجماعة. وذلك بالرغم من كلّ ما يُقدّمه الإعلامُ والإعلان ونقرَأه في وسائل التواصُل الإجتماعيّ حولَ أوْلَوِيّة راحَتِنا ورغباتِنا الشخصيّة، تحت شعار الحرّيّة وتحقيق الذات.
وماذا عن العِزلة؟ ألعِزلةُ الرهيبة، بخاصّةٍ لدى المُسنّين، والتي أصبحت ظاهرةً إجتماعيّةً تتطلّبُ حُلولاً تُخفّف من قساوتها! بالأمس، كانت العائلة تشملُ العمَّ والعمّةَ والخالَ والخالة إلخ، لا بل كانت أحيانًا القريةُ بكاملها تشكّلُ جماعة، حيث الكلُّ يعرف الكلّ، يفرحون ويحزنون معًا ويحضنون الجميع، من الأولاد إلى الأجداد. نحن الآن بحاجةٍ إلى أن “نخلُقَ” الجماعة، بحسب تعبير جان فانْيِيِه: “يجب أن نخلُقَ الجماعة، فنبدأ بدعوة أشخاصٍ وحيدين إلى مائِدَتِنا”. ونكتشفَ من جديد، أو نحافِظَ على “حِسِّ الجماعة” و”جمالِ كلمةِ معًا”. صحيحٌ أنّ مجتمعاتِنا الشرق أَوْسَطِيّة لا تزالُ تتمتَّعُ بحِسِّ الجماعة، لكنّنا نشعرُ بالخطر الذي يُهدّدُها أكثر من أيّ وقتٍ مضى. ولا نريدُ أن نفقدَ هذه الميزة الثمينة.
بالطبع، لا تخلو حياةُ الجماعة من التعب والصعوبات والصراعات. فكما في العائلة، هكذا في الجماعة، يُمكنُ أن يكونَ هناك الإبنُ المطيعُ والإبنُ “الشاطر” الذي يُسبّب المشاكل… وكما تَلْتَفُّ العائلةُ على بعضِها بخاصّةٍ في المِحَن، لِتَسْتُرَ الغلط الصادر عن أحدِ أفرادِها، أو لِتَجِدَ حلاًّ لصراعٍ قائمٍ في داخلها، كذلك في الجماعة، حيث يتشارك الجميع هدفًا واحدًا، ويكتشف كلُّ واحدٍ أنّ سعادتَهُ رهنٌ بسعادة الآخر. هذا هو غنى حياة الجماعة. في الجماعة، لا بُدّ أن نتمرَّسَ معًا وكلّ واحدٍ شخصيًّا على عدم إدانة الآخر أو إلغائه من حياتنا بمجرّد أنّ تصرُّفَهُ يُزعجنا، بل نحاول فَهْمَ أسباب تصرُّفه وإيجاد الطرق المختلفة للحوار معه، ومساعَدَتَهُ كي يُغيّرَ تصرّفه. لماذا؟ لأنّنا نختبرُ القيمةَ الثمينة لكلّ واحدٍ منّا، بصفاته وعِلَلِه. بكلمةٍ أخرى، نتعلّم أن نُقدّرَهُ ونُحبَّه. والأهمّ هو كونُنا نتعلّم ذلك “معًا”. يا لها من ثروة! نكتشفُ التبادليّة، هذا الكنز العظيم.
في التبادليّة تتحقّق عمليًّا المساواة بين الجميع. في التبادليّة كمالُ المحبّة وفي كمال المحبّة السعادةُ الحقّة.
حياة فلاّح