كن نفسك
“كُنْ نَفْسَك” عبارةٌ نسمعُها ونقرأها كثيرًا، خاصّةً على وسائل التواصل الإجتماعيّ. نقرأ أيضًا: “لا تكترث لصورتك أمام الناس”. لكنّ الأمر ليس سهلًا! كيف لا أبالي بصورتي بينما تلاحقني “الموضة” التي علينا اتّباعها، من حيث الوزن المثاليّ والغذاء المثاليّ، والرياضة المثاليّة، وحتّى التبرّج المثاليّ الخ. قيمةُ الإنسان في قلبه، لا في مظهره الخارجيّ، وعلى الجسد أن يُعبّرَ عمّا في القلب. لكنّ “ثقافةَ المظاهر” تدفعُنا للعَيْش من أجل الأشياء الفانية. نحن نهتمّ جدًّا بأن نُعطيَ انطباعًا جيّدًا للآخرين. إنّ الجمالَ الخارجيّ يقتحمُ بقوّةٍ نواحِيَ عديدةً من حياتنا. نلاحظ مثلًا أنّ الشركة التي تختار موظّفًا جديدًا تهتمّ بمظهره بمقدار اهتمامها بكفاءتِه المهنيّة.
عبارة سقراط “إعرفْ نفسك” هي من ركائز الفلسفة لأنّها تدعونا إلى فهم طريقة عمل عقلنا وتفكيرنا وكياننا، أي أن نفهمَ ذاتَنا لنعرفَ كيف نتصرّف.
يخبرُنا Frederic Lenoir وهو فيلسوفٌ فرنسيٌّ معاصر، وعالِمٌ إجتماعيٌّ وكاتب، عن “مشاغل الفلسفة” للأطفال Ateliers de philosophie، حيث يتدرّبون على التفكير والتعبير عن رأيهم بحرّيّةٍ تامّةٍ حول موضوعٍ معيّن، ويستمعون لآراء رفاقهم، فيكتسبون هكذا إستقلاليّة التفكير تجاه الأحداث ومعطيات الحياة والمجتمع. يساعدهم ذلك فيما بعد،عندما يصبحون مراهقين ثمّ بالغين في اختيار القيم التي اكتشفوها في صغرهم والتي تناسبُ شخصيَّتهم. خلال إحدى هذه المشاغل سأل الفيلسوف الأطفال: “ما هي السعادة بالنسبة لكم؟”، فقال أحد الأولاد: “السعادة هي أن أحصل على اللعبة التي أريدها”، وآخر: “عندما أذهب إلى مدينة الملاهي”، وغيره: “عندما ألعب مع رفيقي بل مونوبولي”. ثمّ قال واحدٌ آخر وهو في السابعة من عمره: “أنا لا أوافق. لأنّني عندما أحصل على الشيء الذي أحلم به أكون سعيدًا، ولكن بعد فترةٍ أريد شيئًا آخر… السعادة هي في أنّني موجودٌ في هذا العالم!”.
نحن مدعوّون إذًا، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، أن نقبلَ ذاتنا قبل أن نحاول إخفاء ما يمكن أن يشوّه صورتنا، وأن ننزع القناع الذي نقابل به الآخرين. فقط هكذا نجد التوازن بين كونِنا ذواتنا والتجاوب مع معايير “الموضة” التي تريد أن تَفرُضَ نفسها. نستطيع أن نجمّل صورتنا أو مظهرنا دون الوقوع في التصنّع الذي يشوّه جمالنا الحقيقيّ أي الداخليّ، الذي لا يفنى، والذي يحمله كلّ إنسانٍ إنْ كان مظهرُهُ جميلًا أم لا!
عندما كنتُ في الثانية عشرة من عمري كانت تأتي لزيارتنا صديقةٌ لوالدتي قبيحةٌ جدًّا، لكنّها ما إنْ تبدأ بالكلام، معبّرةً عن ثقافتها و إنسانيّتها ورُقِيِّها حتّى أراها جميلةً وجميلةً جدًّا. لم ولن أنسى هذا التحوّل الشبه مستحيل!
يمكننا إذًا أن نكون أنفسنا ولا نتخلّى عن تقديرنا لذاتنا مهما تغيّرت معايير الجمال الخارجيّ. بإمكاننا أيضًا استعمال مواد التبرّج أو الجراحة التجميليّة بشكلٍ معتدل، يتناسب مع شخصيّتنا، وربّما نفعل ذلك ليس لإرضاء نفسنا وحسب، ولكن، ونحن نفكّر بأّنّ تلك أيضًا هي وسيلةٌ لمحبّة الآخرين.
إعداد حياة فلاّح
Spread the love