كنزٌ ونعمة
سامح ونادر شابّان يعيشان في قريةٍ بسيطةٍ، يعتمدُ سكّانُها على أرضِهم لتأمينِ غذائِهم وقوتِهم. طعنَ والدهما في العمرِ وأرهقه المرض، فطلبَ أن يجتمعَ بهما لِيُعطيهما وصيّتَه الأخيرة. كانت وصيّة الوالد أن يُحافظا على الأراضي التي سيترُكها لهما وكأنّها ولدٌ من أولادهما، وألاّ يُفرّطا بها مهما حدث معهما، ليُحافظا عليها من أجلِ أولادهما.
وبالفعل توفّي الوالد تاركًا وراءَهُ إرثًا من الأراضي المُسجّلة باسمِ الأخَوْين. لكن كلاًّ منهُما لم يرغب في الإهتمام بالأرض، وفوق ذلك لا يعرفُ كلٌّ منهما أصولَ الزراعة، فمنذُ نعومة أظافرهما لم تطأ قَدَمُهما تلكَ الأراضي. الأوّل كان يحرصُ دائمًا على الظهورِ بأبهى حلّةٍ أمامَ الناس، ويخافُ أن تتَّسخَ يداه بأتربةِ الحقول، والثاني كان يكتفي بالقليلِ من الطعام الذي يكفيه ليومٍ واحد، فلا يُفكّرُ بالغد، بل كان همُّه الوحيد الراحة والنوم. لم يفكّر أيٌّ منهما بمستقبلِ أولاده وما ينتظرهم من صعابٍ في هذه الحياة، إذ كانا يعتبران بأنّ على كلِّ ولدٍ أن يتّكِلَ على نفسه وأن يُدبّرَ أمورَه ليؤمّنَ مستقبلَه.
دارتِ الأيّامُ ومضتِ السنين وبقيَ الأخوان في مكانهما دون هدف، لم يتقدّما ولم يُحقّقا شيئًا جديدًا، وكأنّ الحياة وقفت منتظرةً الرَجُلَيْن كي يستمتعا بحياتهما. كانا في كلّ مرّةٍ يحتاجانِ فيها للمال يعمدانِ إلى بيعِ قطعةٍ من أرضهما، ويصرفان ثمنها على الأكلِ والشربِ والملذّات، حتّى باعا كلّ الأراضي التي تركها لهما والدهما، وقد شجّعتهما زوجاتهما على ذلك دون أيّ اعتبار للخوف من المستقبل.
كبر أولادُهما ووصلوا إلى سنّ النضوج، أصبح كلُّ شابٍّ أمامَ تحدٍّ كبير، كتأسيس عائلةٍ وتأمين منزل، إضافةً إلى الاهتمام بأهلهِ الذين لم يُفكِّروا بهذا العبء الثقيل قبلاً، فلم يبقَ شيءٌ يُمكن الإعتمادُ عليه. إبنُ سامح تعلّم وحصلَ على وظيفة، أمّا ابنُ نادر فكان شابًّا متعلّقًا بالأرض، متعلّقًا برائحة ترابها، وكان يتذكّر جدّه تحت أشجارها، فعمل في حقول أهل القرية حتّى تمكَّن من جَمْعِ مبلغٍ من المال، فاشترى أرضًا صغيرةً يهتمّ بها. كان ابنُ عمّه يضحك عليه ويعتبرُهُ أدنى مستوى منه لأنّه يعمل في الحقل كغيره من الفلاّحين، لكنّه لم يهتمّ بتلك الإهانات، بل كان فخورًا بنفسه وبعمله وبكلّ ما حقّقه بفضل عرق جبينه.
شاءت الصُدَف أن يفقدَ ابنُ سامح عمله، ففقد بالتالي موردَ رِزقِهِ وأصبح من الصعب إيجادَ عملٍ بديلٍ يُعيلُهُ وعائلته. فنظر إلى حال ابن عمّه الذي استمرّ في الإهتمامِ بأرضه، وكان كلّما اهتمّ بها أكثر كلّما تكرّمت عليه بمحصولٍ أوفر، فتجودُ عليه بخيراتِها. عائلةُ سامح عاشت في المجهول والعَوَز، أمّا عائلة نادر فَبِفَضل ذلك الشابّ العامل المُحبّ للأرض تمكَّنت من اجتياز العواصف، بالرغم من إهمال والده لمستقبله. لم يحقد ابنُ نادر على أبيه، بل على العكس، اهتمّ بوالده فزاده اللهُ نِعَمًا ورَزَقَهُ بحسب نواياه الطيّبة، فأيقن بأنّ الأرض كنزٌ ونعمة، وهي ضمانةُ الوجود والإستمراريّة.
هلا قسطنطين
Spread the love