كلارا فتاةٌ جميلةٌ عندما بلغت عامَها الثالث فقدت والدها بحادث سير، لكنّ أمّها لم تترك وسيلةً للتّعويض عن حنان الأب، فكانت لها الأمُّ والأبُ معًا والسند الوحيد في حياتها. لقد عملت في الخياطة لتؤمّن ما تحتاجُه ابنتُها، فكان يقصدها الجيران وكلّ من يعرفها ليستفيد من خبرتها في الخياطة. كان هدفها الوحيد أن تحصل ابنتها على التعليم المناسب كي تتمكّنَ من مواجهة الحياة بمفردها دون أن تحتاجَ إلى أحد.
في الأعياد كانت الأمّ تخيط لإبنتها أجمل الفساتين فتبدو كوردةٍ تجذب الأنظار إليها.
كانت كلارا فخورةً بأمّها، تقدّر كلَّ تضحياتها، في ليالٍ كثيرةٍ استيقظت في وقت متأخّر، لتجدَ أمَّها مُنْحَنيةَ الظهر، تخيطُ الملابس. كبرت على هاجسٍ واحد، وهو تحقيقُ حلم أمّها بالنجاح، فكانت تهرع إليها كلّما أخذت علامةً جيّدةً لتُفرِحَ قلبَها.
لم تكن حياةُ كلارا في المجتمع سهلةً كحياتها في البيت، فكثيرًا ما تعرّضت للتنمُّر من قِبَلِ الأولاد إذ كانوا يعتبرونها مختلفة، لأنّها يتيمةُ الأب، وهذا الأمر كان يحزنُها كثيرًا. كي تتغلّبَ على حزنها أوجدت لها مكانًا سرّيًّا خلف المنزل بين شجيرات التين تهرب إليه كلّما شعرت بالضيق، فتختبئ في ظلالها لتحتمِيَ من قسوة البشريّة.
لكن، وبالرغم من الجراح التي آلمَتْ قلبَها، لم تُسبّب لها تلك الجراح عقدًا نفسيّة، بل إنّ هذه الجراح جعلت شخصيَّتَها مزيجًا من الإحساس والقوّة، فكبُرت فيها تلك الفتاة الحسّاسة الشغوفة في الحياة كفراشةٍ تلمعُ في النور، كما نمت فيها الفتاةُ العنيدةُ المُصمّمة على الإنتصار وتحقيق النجاح.
كان جمالُها يزداد يومًا بعد يوم إلى أن أصبحت شابّةً بعمر الزواج، فتعرَّفت على شابٍّ في سِنِّها فأُعجِبَ بذكائها وجمالها وأراد الزواج بها. لكنّ الصدمة الكبيرة كانت حين عَلِمَ بعَمَلِ أمّها، فشعر بالخجل منها لأنّ عائلتَهُ يُهمّها المظاهر، ولا يُمكن أن يرتبطَ بفتاةٍ أمّها تخيطُ الملابس للناس، فطلب منها أن تتوقّف أمّها عن العمل كشرطٍ لزواجهما. في البداية شعرت كلارا بانزعاجٍ شديد، لكنّها واجهت ذلك الشابّ بقرارها الحاسم بعَدَم الإرتباط به، وطلبت أن يفترقا، فهي لا تخجل بأمّها التي سهرت وضحّت، وآثارُ التعب باديةٌ بشكل ٍواضحٍ على ملامحها، كيف لها أن تُبادلَ تضحياتِها بالنكران؟
كان قرارُها حاسمًا، من يخجلُ بعَمَلِ أمِّها سيأتي يومٌ ويخجلُ بها هي أيضًا أمام الناس. لقد اختارت عزّة نفسها وكرامتها واجتازت تلك المحنة وتابعت حياتها.
ومضى العام بعد الآخر وكلارا تُحقّقُ نجاحًا تلو النجاح حتّى أصبحت في مركزٍ مهمٍّ جدًّا، فبفَضلِ ذكائها تمكَّنتْ أن تصلَ إلى منصب الإدارة في إحدى الشركات وهذا ليس غريبًا لأنّها بالفعل إستحقّت بجدارةٍ ذلك المنصب. لكنّ المُستغرب في الأمر هو اختيارُ شريك حياتِها، فمن بين كلّ الأشخاص المهمّين من حولها، إختارت كلارا عاملًا متواضعًا زوجًا لها بسبب قلبه الكبير، وتقديره لكرامة الآخرين، فعاشت معه بسعادةٍ غامرة، وعَوَّضَها وجودُهُ غيابَ والدِها الذي كانت تُدركُ أنّه يُراقبُها من بعيد.
في الحياة تختلف نظرةُ البشر في تقييم الآخرين، فالبعضُ يُقدّرُكَ بحجم ثروتِكَ ويهتمُّ بالمظاهر، أمّا البعض الآخر فتكون نظرتُهم عميقة، ينظرون إلى الداخل حيث عمق الإنسان، ليفرحوا بالكنز الكبير. لتكُن نظرتُنا عميقةَ في الإختيار، فنغوص في الأعماق بحثًا عن المشاعر الصادقة.
هلا قسطنطين