كلُّ لحظة هي هديّة

لا يهمُّ عددُ الأعمال التي يقومُ بها المؤمنُ المسيحيّ، بل كيف يقومُ بها.

قد يبدو للبعض أنّ يسوع قد فَشِلَ خلال حياته في تغيير العالم. المهمّ هو أن نحقّقَ المخطّط الذي وضعه الله لنا لا أكثر ولا أقلّ.
لِنَعْمَلْ إذًا، كلٌّ من موقعه، بإرادة الله التي تَدْعونا، لا إلى عَيْشِ اللحظة الحاضرة وحسب، بل إلى إتمام ما أَوْكَلَهُ اللهُ لنا.
ولكن، إن لم نَكُنْ مُتّحدينَ في ما بيننا، سوف يبدو لنا وكأنّنا لا نقومُ بالشيء الكثير. في حين أنّه إذا اتّحَدْنا، إخْتَبَرْنا أنّ ما يعمله الواحد منّا متعلّقٌ بعمل الآخرين. عندها، يكتسبُ كلُّ عملٍ أُفُقًا واسعًا ومعنًى عميقًا، ويدخل الأبديّة.
فَلْنُحِبّ إذًا تلك الابتسامة التي نُعطيها، وذاك العمل الذي نقومُ به، والسيارة التي نقودُها، ووجبةُ الطعام التي نُحَضّرُها، وذاك النشاط الذي نُنَظّمُهُ والدمعة التي نذرفُها من أجل المسيح الحاضر في أخينا المتألِّم، وتلك الآلة الموسيقيّة التي نعزفُ عليها أو المقالة أو الرسالة التي نكتبُها، والحدث السعيد الذي نشارك فيه والثوب الذي نُنَظّفُه…
كلُّ شيءٍ وكلُّ حدثٍ يُمْكِنُهُ أن يكونَ وسيلةً نُظهِرُ من خلالها مَحَبَّتَنا لله ولإخوتنا البشر.
إذا عِشْنا اللحظة الحاضرة يَحْيا اللهُ فينا، وإذا كان اللهُ فينا تكون المحبّة. من يعيشُ الحاضر يكون صبورًا، مُثابرًا، وديعًا، مُتجرّدًا، طاهرًا ورحومًا، لأنّ فيه تتجلّى المحبّة بأسمى تعابيرها. هو يُحبُّ الله حقًا، من كلّ قلبه وكلّ نفسه وكلّ قواه. إنّه مُنوَّرٌ، يُهْديهِ الروحُ القُدُس، فلا يَحْكُمُ على أحد، ولا يُفكّرُ سوءًا بأحد. يُحبُّ قريبَهُ كنفسه، وله القوّة بأن يَتْبَعَ جنونَ الإنجيل الذي يقول: “من لَطَمَكَ على خدّكَ الأيمن، حَوِّلْ له الآخر…”، أو “من سَخَّرَكَ ميلاً فَاذْهَبْ معه ميلَيْن”. وهو غالبًا ما يُعطي “ما لقيصر لقيصر”، لأنّه مدعوٌّ أن يعيشَ حياته أيضًا كمواطنٍ بشكلٍ تامّ… وهكذا دواليك.
لن نفهم أبدًا بما فيه الكفاية، ما قيمة عَيْش اللحظة الحاضرة. إذا عِشْتُ الحاضر، يكونُ اللهُ معي في تلك اللحظة لأنّني أعيشُ إرادتَهُ ويَمْنحُني “نِعْمَتَهُ الحاليّة”، وإنْ لم أَعِشْه، لن يكونَ اللهُ معي ولن أكونَ معه.
غالبًا ما نَجْهَدُ في التفتيش عن سُبُلٍ تُوصِلُنا إلى الله، تجعلنا أكثر طيبة، تجعل منّا قدّيسين. ولكن، لماذا نبحثُ عن هذه السُبُل في حين نعرف أنّه “هو” الطريق، و”هو” هنا، الحاضر الأبديّ، ينتظرُ مِنّا أن نتعاونَ معه في كلّ لحظةٍ من حياتنا، لِيَعْمَلَ فينا ومعنا ويجعلنا نُتمّم أعمالاً تليقُ بنا كأبناءٍ لله؟
الحياةُ بسيطةٌ ونحنُ مَنْ يُعَقّدُها.
يكفي أن نَثْبُتَ في الحاضر بكلّ أفراحِهِ وكلّ طوارئِهِ وأتعابِهِ وبكلّ الالتزامات المُتَوَجّبَة علينا، فيسير كلّ شيءٍ على ما يُرام، ونشعر بقوّةٍ جبّارةٍ تَدْفَعُنا نحو حياةٍ أبديّةٍ مِلْؤُها الفرح.
ففي أزمنةٍ صاخبة كَأَزْمِنَتِنا، يملأها الضجيج والسيارات والتكنولوجيا، من المهمّ أن نغوصَ في إرادة الله فنكون حقًّا في الله. في حينه، سوف نرى العالم يتغيّر والكلُّ يتوق إلى القداسة، وتجدُ المشاكلُ حلاًّ لها، في المجالات الإنسانيّة كلّها، ويسود السلامُ والسعادة والصحّة وتتحوّل الأرض إلى جنّة.
“لا تهتمّوا إذًا بالغد، فالغدُ يهتمُّ بنفسه. يكفي كلّ يوم شرّه”. يقول الربّ، هو الذي بلغ ذُروةَ الألم، “يكفي كلّ يوم شرّه”. فحين نتكيَّف نحن مع أوضاعنا ونعمل بحسب إرادة الربّ مفكّرين بهموم اليوم فقط، غالبًا ما نرى هموم الغد التي كنّا نقلقُ بسببها قد زالَتْ.
أن نعيشَ وبشكلٍ كاملٍ إرادةَ الله في اللحظة الحاضرة، هذا هو عينُ الحكمة.
ولكن، قد تراودُنا أفكارٌ مُرْهِقة، لها علاقةٌ بالماضي أو بالمستقبل، وتتعلّق بأحداثٍ أو بأشخاصٍ لا يُمْكِنُنا الاهتمامُ بهم مباشرةً، فيتطلَّبُ ذلك منّا جهدًا كبيرًا كي نقودَ سفينة حياتنا، ونستمِرَّ في الوقت عينه في السير على خطى ما يريدُهُ اللهُ منّا في تلك اللحظة الحاضرة.
عندها، ولكي نعيشَ جيّدًا وبشكلٍ كامِلٍ هذه اللحظة الحاضرة، نحن بحاجةٍ إلى تصميمٍ وإرادةٍ صلبة، وبخاصّةٍ إلى ثقةٍ بالله لا تَتَزَحْزَح، قد تَصِلُ إلى حدِّ البطولة.
“لا أستطيعُ أن أعملَ شيئًا من أجل هذا الإنسان العزيز الذي يُعاني من خطرٍ أو مرض، أو يَمُرُّ بوضعٍ حَرِج، سأعملُ إذًا ما يريدُهُ اللهُ منّي في هذه اللحظة: سأدرس جيّدًا مثلاً، وأصلّي جيّدًا، وأُنظّف جيّدًا، وأهتمّ جيّدًا بأولادي، واللهُ سيهتمُّ بِحَلِّ المشكلة وبتعزية مَن يتألّم، ومعالجة ذلك الأمر الطارئ”.
إنّه عملٌ نقوم به بشراكةٍ تامّةٍ مع الله، وهو يتطلّب منّا إيمانًا كبيرًا بالله وبمحبّته لأبنائه، وما الأعاجيب في حينه، سوى نتيجة لهذه الثقة المتبادلة. ونكتشف أنّه، حيث لا نستطيع نحن أن نَصِلَ، يصلُ آخَرٌ هو الله، الذي يعمل أفضل منّا بكثير.
وهكذا يُكافَأ فِعْلُ ثِقَتِنا البطوليّ وتكتسبُ حياتُنا المحدودة بُعدًا جديدًا، فنشعر أنّنا في تواصلٍ مع اللامتناهي الذي نتوق إليه، ويصير الإيمان عنوانًا يُقوّي المحبّة فينا، فننسى ما معنى العزلة ونعي حقيقةً أنّنا أبناءُ إلهٍ قادِرٍ على كلّ شيء، كوننا اختبرنا ذلك حقًّا.
من يُحبُّ الله قليلاً وإنّما يخشاه، يُعطي لهذه الآية: “لتكُنْ مشيئةُ الله”، طابعَ الاستسلام لا غير. ولكن، من يحبُّ الله حقًّا وبكلّ صدقٍ، فهو يُؤمِنُ أنْ ليس هناك من أمرٍ أفضل وأسمى من ذلك يستطيعُ القيام به.
فهل هناك أهمّ من أن نتبَعَ إلهًا مثل إلهنا، يقودُنا لحظةً تلو الأخرى، ويكلّمُنا من خلال أشخاصٍ وظروفٍ وتعاليمَ وواجباتٍ وإلهاماتٍ وآلامٍ وأحداثٍ وإرشادات؟ كلُّ ذلك هو بمثابة نُوطاتٍ لمقطوعةٍ موسيقيّة، تؤلفها السماءُ وتَعْزِفُها على قيثارة النفس الطيّعة، المغرمة بالله.
اللهُ الذي يُحبّ كُلاًّ مِنّا وجميعَنا محبّةً لا متناهية، قد هَيَّأَ لكلٍّ مِنّا مغامرةً إلهيّةً مختلفة، مجبولةً في آنٍ مِمّا هو مقدّسٌ ومِمّا هو دُنْيَويّ، ما هو مأساويٌّ وما هو مُبْهِج، ما هو مفرحٌ وما هو مُحْزِن. إنّها لوحةٌ رائعةٌ سَنَعْرِفُها بشكلٍ أفضل في الآخِرة حين سَتَنَفَتَّحُ أَعْيُنُنا على “نور المجد”.
أعطنا يا ربّ أن نثبُتَ في إرادتِكَ الإلهيّة كلّ لحظة، ومتى تَمَلَّكَتْنا هذه الإرادة، صِرْنا مُلكًا لكَ، وهذا ما له قيمةٌ وحده.
الحياة مَعْبَرٌ مُهمّ، فيها تكمن التجربة. ولكن، بقدر ما أدعُ يسوعَ يَبْني فِيَّ، بِقَدْرِ ما أثبتُ في الأبديّة، في الحياة الآخرة. كلُّ ما أقومُ به وفي كلّ لحظة، كلُّ نَفَسٍ لي، سَيَنْعَكِسُ في الأبديّة، وستتمحورُ حياةُ الآخِرَة حول كلّ لحظةٍ من حياتي على الأرض. “السماءُ، بيتٌ نَبْنِيه هنا ونسكنُهُ هناك في الآخِرة”.

يا يسوع،
إجعلْني أتكلّمُ دائمًا
كما لو كانت الكلمة الأخيرة التي أتفوّه بها.
إجعلني أتصرّف كما لو كان هذا العملُ آخِر ما سأقوم به
إجعلني أتألّم
كما لو كان هذا هو الألم الأخير الذي أستطيع أن أقدّمَهُ لك.
إجعلني أصلّي دائمًا
كما لو كانت الفرصةُ الأخيرة
التي أملكُها على هذه الأرض
بأن أتحدَّثَ معك.

                                                                                                                                                                                                            كيارا لوبيك

For-web-Chiara

Spread the love