شارك كلٌّ من سيادة المطران كريكور أوغسطينوس كوسا، أسقف الإسكندريّة للأرمن الكاثوليك، والمونسينيور أنطوان توفيق، نائب مطران الكنيسة اللاتينيّة ومسؤول المحكمة الكنسيّة المعنيّة بدعوى تطويب الأخت ماري دى بيتاني.
كما شاركت أيضًا الأخت جورجيت جرجوري، الرئيسة العامّة لراهبات المير دى ديو، والأخت ماري كريستين فيلبّس، رئيسة دير راهبات الميردي ديو بالإسكندرية، والمكلّفة من قبل الرهبنة بإعداد ملفّ تطويب الأخت ماري دى بيتاني، والأخت ريتا خوري رئيسة دير راهبات المير دى ديو في القاهرة، والأخت برناديت روسّوني، المسؤولة عن الملفّ، ونائبها الأب باتريك الكرمليّ والمسؤول عن البعد الروحيّ، كما الأب كميل وليم المسؤول عن اللجنة التاريخيّة، والأب ميلاد صدقى زخارى المسؤول عن البعد اللاهوتيّ، بالإضافة إلى عدد من الآباء الكهنة، والرهبان والراهبات من مختلف الراهبانيّات والعلمانيّين.كان للأسقف كلاوديو لوراتي كلمة الإفتتاح حيث وصف هذا الوقت بمحطّة مهمّة للتعرّف والتأمّل بحياة خادمة الربّ، وقال: “لكأنّنا نستخرجُ لؤلؤةً من التراب فلا نوفّر أيّ جهد أو وقت أو عمل. آن الوقت لنستخرج هذا الكنز المدفون والذي كان بانتظارنا منذ وقتٍ طويل. ما هو خيّرٌ هو محفوظٌ عند الربّ ولا يُفقدُ أبدًا لأنّ الربّ راعيه”.
أمّا الأخت جورجيت جرجوري فقد قالت: “نيللي بيغيان خادمة الربّ، هي فتاة مسكونيّة. وها نحن نتابع مسيرة تعريفنا بماري دى بيتاني التي قدّمت حياتها لقداسة الكهنة. هناك يدٌ تشرّع أمامنا الطريق فنتقدّم بثقة وبحوزتنا علامات عديدة، نعرِّفُ من خلالها بماري دى بيتاني كرسولة قلب مريم. معها نرفع الصلاة ونقول: “بحمايتك يا مريم ليحمل الكهنة ثمار السلام”. لنُمسكْ بقوّة بيدِ أمّنا العذراء كما كانت تفعل نيللي المخلصة لدعوتها، ولعائلتها الرهبانيّة، ولعائلتها البشريّة المجروحة بسبب انفصال والديها، ولشعبها المتألّم بسبب الحروب. لقد دخلت فرح سيّدها عام ۱۹٤٥، تاركةً وراءها حياة تُرشد وتُعلّم، فترتدّ النفوس بسببها”.
أكّدت الأخت روسّوني بدورها بأنّ الجميع يعيش لحظةً خاصّةً في كنيسة مصر، البلد الذي افتُتحَ فيه ملفّ تطويب خادمة الربّ “ماري دى بيتاني” بعد توقّفٍ دام ستّين عامًا، وها هو ينطلق من جديد ويأخذ مساره. وأضافت: “إنّه لأمرٌ هام جدًّا إعلان بدء اللجنة عملها في يوم العنصرة، أي يوم حلول الروح القدس، ممّا جعلنا نتابع الملفّ واثقين، عاملين على ضوء إلهاماته وإرشاداته إلى أن نحقّق غايتنا المنشودة.
كم هو جميلٌ أن نقابل أشخاصًا تعرّفوا إليها ولا زالوا يذكرون “ماري دي بيتاني” كقدوةٍ ومثالٍ في القداسة. لن نسبق إعلان الكنيسة الرسميّ بقداستها، لكنّنا نتعمّق بحياتها وكتاباتها وننشر ما نعرفه عنها وعن تقواها. إنّ مسيرة إعلان تطويب وقداسة شخص لها قواعدها: يجب أن تبدأ الدعوى أقلّه خمس سنوات بعد وفاة الشخص المعنيّ دون أن تتعدّى المدّة الثلاثين سنة. بالنسبة ل”ماري دى بيتاني” بدأ فتح الملفّ بالوقت المناسب، أي بعد ۱٢ سنة من لحظة وفاتها. أُرسِلَ الملفّ بالكامل عن طريق حقيبة دبلوماسيّة الى روما عام ١٩٦٢، لكنّه توقّف هناك وانتهى في أرشيف المجمع وقبع منتظرًا لمدة ستّين عامًا. سنة ٢٠١٨ طلب منّي الأب باتريك أن أسأل عن مصير الملفّ في مجمع دعاوى القدّيسين. وجدته محفوظًا بشكلٍ جيّد، وبعد الإجراءات القانونيّة اللازمة بدأ الملفّ يعود للواجهة مرّةً أخرى. لقد تمّ العمل عليه بشكلٍ رائع منذ عام ٥٧ لغاية ٦١، والمادّة قيّمة والشهادات واضحة. نأمل أن نصل قريبًا إلى نهاية المطاف فيتمّ إعلان ماريا دى بيتاني طوباويّة”.
أمّا الأب كميل وليم فقد رافق الحضور بجولةٍ تاريخيّة لحياة ماري دى بيتاني ثم قدّم نبذةً عن حياتها وكتاباتها، وشرح الأب ميلاد صدقى زخارى عن البعد اللاهوتيّ في حياة وكتابات الأخت ماري دى بيتاني.
أراد الأب باتريك الكرمليّ أن يجعل الحاضرين مغرمين بحُبّ الأخت ماري دى بيتاني، فيدخلهم إلى قلبها الذي أحبّ الله وأحبّ إخوته البشر. قال بأنّها كتبت في أحد الإيام: “فرحت جدًّا اليوم لأنّني مزّقت كلّ مذكّراتي، أشعر بحريّة داخليّة وخفّة حركة”. وأردف مطمئنًا قائلاً: “ما بقي كافٍ وإلى حدٍّ كبير لمعرفة عظمة نفسها وجمالها. حين التقيتُها في حياتها وكتاباتها عشقتُها، لأنّ القدّيسين هم أفضلُ أصدقائنا، وتطال عجائبُهم الناس أجمعين، دون تفرقة وتمييز. ربّما نتساءل ماذا صنعت الأخت ماري دى بيتاني من عظيم؟ والجواب هو “لا شيء”. لكنّها بالفعل، صنعت شيئًا عظيمًا، فقد علّمتنا أن نصغيَ لصوت الله الذي يحدّث القلب والنفس، ويقودنا للتصرّف باستقامةٍ مع الآخرين ويوجّهنا نحو ما علينا القيام بها. يتضّح من خلال مذكّراتها ورياضاتها الروحيّة كم أنّها تحمل في قلبها الله، والعائلة البشريّة التي تصلّي من أجلها. كانت صحّتها هشّة، لكنّ الله دعاها، وكان لديه مشروع عليها، وهي عرفت كيف تحقّق مشروعَهُ هذا. هي في حوار دائمٍ مع الله، وكلّما كان يزداد ألمُها، كلّما تحدّث اللهُ لقلبها. في أحد الأيّام راودها هذا السؤال: “لمن عليّ أن أقدّمَ حياتي؟”، وجاء الردّ سريعًا، وفهمت أنّه عليها أن تبذل حياتها من أجل الكهنة. فالكاهن هو القناة الذي من خلاله تمرّ نعمة الله، في الإفخارستيا، وفي سرّ الإعتراف وفي الأسرار كلّها. حبُّ الكهنة يعني حبُّ الكنيسة. عرفت ماري دى بيتاني كيف تقبل كلّ أنواع الألام فاقترنت تلك بحبّها ليسوع ولمريم العذراء. تبدأ رسالة القدّيسين بعد مماتهم، والله يكافئهم بهبة القداسة، ويضع ختمه على أعمالهم”.
لكن من هي الأخت ماري دى بيتاني؟
وُلدت الأخت ماري دى بيتاني في الإسكندرية من أبٍ ينتمي للطائفة الأرمنيّة الكاثوليّة وأمٍّ من طائفة الروم الأرثوذكس. تفكّكت عائلتها وكان ذلك بمثابة صدمةٍ كبيرة جعلتها تنزف طوال حياتها. أشعلت الدعوة الرهبانيّة في داخلها الرغبة في التضحية، وتعلّمت كيف تخفي وجع الأشواك خلف زهرة الإبتسامة والسعادة. رافقتها الآلام الجسديّة منذ حداثة سنّها بسبب اعوجاجٍ في العمود الفقريّ، فاضطُرَّت إلى ارتداء حزام من الليوليد للعظم الثقيل جدًّا، ممّا سبَّبَ لها آلامًا مبرحة. تجارب روحيّة في الفترة الأولى، آلام كثيرة، لكن، وبحسب شهادة من عاش بقربها، كانت دائمًا مشرقة. إكتملت قداستُها بيسوع والإفخارستيّا ومريم العذراء، بالإضافة لوظيفةٍ رسوليّة حصلت عليها: أن تضحّي بنفسها من أجل الكهنوت. في ۱۱ يونيو ۱۹٤٥ كتبت:” لقد تيقّنتُ من احتماليّة بل حقيقة رحيلي. فقد أعلن لي يسوع أنّه يطلب منّي أن أتخلّى أكثر، والآن ليس لديّ إلاّ أن أتوارى وأختفي”. كانت الطبيعة تحتضر فيما كانت النعمة تحصل على انتصاراتٍ عظيمة. فبالرغم من التعب والمجهود الشديد والأرق، كانت تعلو وجهها نفس الإبتسامة الهادئة، وكان أسلوبها هو هو، في عمل الخير وإرشاد الأخرين.
“لقد أدركتُ أنه يُعدّني لآلآمٍ جديدة ولتجرّدٍ جديد، ولقد قبلتُ كلَّ شيء، هذا مؤلمٌ لقلبي ولكن كلّ هذا هو من أجلهم”. فحصها الطبيب وعرفت بأنّه “ورم”. قالت: “إذا لم نحمل الصليب على الأكتاف، فلن نستطيع أن نشعر بالأشواك”، “إنّ التأمّل حول الصليب جميلٌ جدًّا، ولكن ما هو أفضل منه هو أن نكون على الصليب”.
ثلاثة أيّامٍ من الإحتضار والتطهير، إنّه “الحضن المليء بالألم” الذي كلّمها عنه يسوع حين وعدها بالقبلة الإلهيّة، في رؤية إكليل الشوك. وها هي صارت إكليلاً من الشوك. ما إن تُوفيَّت حتّى استردّ وجهُها نضارته ومحيّاها التعبير البسيط والطيّب، لقد كانت مستلقيةً ونائمة في قبلة السيّد الربّ.
إليكم البعض من تأمّلاتها:
“تتوقّفُ حيويّةُ الجسدِ بكاملِه على حيويّةِ القلب. وعلى الكهنة أن تكونَ فيهم النعمةُ بغزارة؛ وعليها- هم أكثرُ من غيرِهم، أن يذهبوا ويغترفوا من ينابيعِها -فالعذراءُ مريمُ هيكلُ الروحِ القدسِ الحيُّ، تدعوهم، إذًا، ليتّحدوا اتّحادًا وثيقًا بها، لتستطيعَ، بواسطتِهم، أن تُفيضَ الحياةَ في النفوس”.
“يا أبنائي الصغار”! إنّ يسوعَ يكرّرُ حنانَه علينا بواسطةِ الإفخارستيّا التي تواصلُ أسرارَه؛ لأنّه أحبَّ خاصّتَه أحبَّهم إلى النهاية، ولم يُحبَّهم حتّى الموتِ فقط ؛ بل إلى منتهی حدود المحبّة، إلى منتهى الأزمنة. إنّ يسوعَ ومريمَ يريدانِ امتدادَ أسرارِهما في طبيعتِنا البشريّةِ البائسة. فعلى الكاهنِ أن يكون المسيحَ، وينبضَ قلبُ يسوعَ في صدرِه، و يشعَّ بواسطتِه في النفوس. فالكاهنُ آلةُ حنانِ يسوعَ ومريم” .
“كانتِ الخطيئةُ قد قفلت ينابيعَ الحياةِ من الإنسانِ الخاطئ، ولكنّ قولَ الكلمةِ « أنا آتٍ، وقولَ العذراءِ مريمَ فليكن، قد فجّرَا للعالم ينابيعَ لا تنضب. وهكذا استطاعت الحياة الإلهيّة، بفضلِ الروحِ القدس، وبواسطةِ مريم، أن تفيض بغذارةٍ على العالمِ وتحييَ النفوسَ. إنّ الثالوثَ الأقدسَ، الشمسَ الإلهيّة، يسلّطُ كلَّ أنوارِه على مريمَ لتعكسَها بدورِها على العالم، ككرةٍ في البلورِ الناصع .. وهكذا بعد أن ملأها الثالوثُ الأقدس، شاركَت في عمل الحبِّ والفداء، فاتّضحَت أفكارُ الله”.
“أحببْ أمَّك، یا کاهنَ المسيح. فعلى قدرِ ما تتّحدُ بها، وتنصاعُ لتوجيهاتِ يسوعَ ومريم، تزدهرُ الحياةُ الإلهيّةُ وتستطيعُ أن تصبَّها في النفوسِ فتنقذَها. أحببِ النفوسَ بنفسِ حبِّ قلبِ يسوعَ وقلبِ مريم، ليصيرَ بإمكانِك أن تشفقَ على شقاءِ البشريّةِ المسكينة، وتنحنيَ على كلِّ جرح؛ لتشفيَه، وكلِّ ألم؛ لتسكّنَه، وإذ ذاك تحبّ الفقراء والصغار، وتحبَّ البشريّةَ بأجمعِها بسعةِ قلب، دون تقيّدٍ بالأحزابِ وباختلافِ الشعوب، إذ لن ترى إلّا نفوسًا افتداها يسوعُ المسيحُ بدمِه، لن تری سوی أبناءِ الله تظلّلُهم مريمُ بحنانِها فتحبَّهم أنت بدونِ استثناء، بنفسِ قلبِ يسوع. وعلى قدر ما تتركُ فیضَ المحبّةِ الإلهيّةِ ينسابُ فيك، يزدادُ الجسدُ السرّيُّ بأكملِه حيويّة، وباتّحادِك بأمِّ الله وبيسوعَ الذي تكوِّنُه فيكَ، تستطيعُ أن تجعلَ حبَّهما يشعُّ بواسطتِك. فيمرُّ الروحُ القدسُ بك كما مرَّ بمريمَ، ويلمسُ النفوسَ فينيرُها ويقدّسُها كما برَّرَتْ مریمُ، بزيارتِها إليصاباتَ، يوحنّا المعمَدانَ وقدّسَته. وبمرورِك أمامَ النفوسِ وباتّصالِك بها تجعلُها تنفتحُ لعملِ النعمة، فتكونُ أنت بالحقيقةِ أداةَ الرحمةِ الإلهيّة، وقناةَ النعمِ التي يصبُّها اللهُ في النفوس، فيمكنُك إذ ذاك أن ترفعَها نحو ينبوعِها الإلهيّ”.
إعداد ريما السيقلي