صادفْتُ أمام الجامعة رجلاً مُسنًّا يكاد يكون أعمى، مُتّسخًا يرتدي الخرق، ومصابًا بجروحٍ بسبب السقوط المتكرّر. صورةٌ حقيقيّة للمسيح على الصليب. ساعدْتُه على النهوض واقترحتُ عليه أن يستحمّ. عند دخولي الجامعة، وجدْتُ الشجاعة لأطلبَ من رئيسها الإذن بِاسْتخدام حمّامِهِ الشخصيّ، لأنّه الحمّام الوحيد الذي يحتوي على حوْضِ استحمام، حتّى يتمكَّنَ الرجل الفقير من غَسْلِ نفسه بمساعدتي.
متفاجئًا من هذا الطلب غير المعتاد، لم يجعلنا رئيسُ الجامعة نجلس فحسب، بل قام هو بنفسه بشراء الصابون. بعدها رافقْتُ الرجل العجوز إلى منزله، واشْتريتُ له طعامًا ونظّفتُ الغرفة التي كانت غيرَ صالحةٍ للسكن لكثرة اتّساخِها. في اليوم التالي، استدعاني رئيس الجامعة، مهتمًّا بمعرفة أسباب هذه البادرة. لذلك تمكّنتُ مِن إخباره أنّ اختيارَ محبّة القريب بمقدورها أن تُوَحّدَ جميع الأشخاص. فعرضَ عليّ مبلغًا كمساعدةٍ في تلبية احتياجات كبار السنّ. حتّى رفاقي الذين كانوا حاضرين في مكان الوصول تأثّروا وجمعوا له مبلغًا لشراء ملابسَ جديدة.
كنتُ في المستشفى أنتظرُ مع عددٍ من الأشخاص دخول الجناح الذي لا يزال مغلقًا حينما وصل رجلٌ عجوزٌ وانضمَّ إلينا. إقْتَرَبَ منّا وسحبَ كومةً من الأوراق والوصفات الطبّيّة وسألَنا إنْ كان في المكان المناسب. لم يكن أحدٌ يملكُ الإجابة. وراء الباب الزجاجيّ الذي يفصلُنا عن الجناح، كان الأطبّاءُ والممرّضون ينتقلون من جانبٍ إلى آخر، وكان الرجل يلوّحُ بأوراقه ويطرقُ بيده على الباب الزجاجيّ علّه يلفتُ انتباهَ أحدِهم، لكنْ عبثًا.
أمّا أنا فكان عليّ إجراء الفحوصات قبل إجراء العمليّة المقرّرة، وكان الطبيبُ بانتظاري.
وأخيرًا فتحَ أحدُهم الباب وقال للرجل المُسِنّ: “عليك أن تتوجّهَ لمكانٍ آخر”. أعطوه التوجيهات، وطلبوا منه الذهاب إلى قسمٍ آخر في الجهة المعاكسة من المستشفى. بالطبع كانت المسافة كبيرة، وليس من السهل أن تجدَ طريقَكَ إلى هناك، عدا أنّه عليكَ أن تسيرَ ليس بالقليل.
راح يتساءلُ بصوتٍ عالٍ: “ماذا عليّ أن أفعل؟ أستديرُ يمينًا، ثمّ أذهبُ مباشرةً شمالاً… لم أفهم”. كانت واضحةً حاجتُهُ للمساعدة. راح الباقون يحدّقون بأوراقهم خافضين رؤوسَهُم، محاولين التغاضي عن صرخة الإستغاثة تلك. شعرْتُ بالإنقباض فقلتُ بعفويّةً: “أنا أرافقُك. أعرف أين يوجد هذا القسم”. إنطلقْنا وتعارفْنا.
وُلِد صديقي الجديد عام ١۹٢٥، أتى لإجراء عمليّةٍ جراحيّةٍ في وريدٍ في ساقه التي لم تَعُدْ تعملُ بشكلٍ جيّد. لقد عمل لسنواتٍ عديدةٍ كرئيسٍ في أحد أهمّ الفنادق وشارك في أجمل اللحظات في حياة الكثير من الناس، حفلاتِ الزفاف ومناسباتٍ جميلةٍ شتّى. وبفخرٍ إلتفتَ صوبي وقال: “بفضلي أضحت تلك الأيّامُ لا تُنسى! طبعًا بذلتُ مجهودًا كبيرًا لِجَعْلِ كلّ شيءٍ يجري بشكلٍ مثاليّ، وليشعُرَ الآخرون بالسعادة، وربّما لهذا السبب وصلتُ إلى هذا العمر. لأنّ السعادةَ تجعلُكَ إنسانًا أبديًّا”.
كنّا نسيرُ ببُطءٍ لأنّه كان مُنهَكًا من المَشي.
بعد ذلك، أوكلْتُه إلى ممرّضةٍ لطيفةٍ للغاية رحّبَتْ به وأخذتْهُ من يده، لكنّه التفَتَ نحوي وقال: “يا آنسة، لا أعرف كيف كنتُ سأفعلُ اليوم من دونكِ ، هل يمكنني أن أقدّمَ لكِ فنجانًا من القهوة؟». فابْتسمْتُ وأجبْتُه بأنّنا تناولنا هذه القهوة على طريقتنا، وأضفْت:” لو كان والدي يمرُّ بنفس الموقف كنتُ سأكون سعيدةً إن عرفْتُ بأنّه التقى بشخصٍ لطيف. لو كان ممكنًا صلّي من أجلي”.
كانت مكافأتي تتعدّى بكثير فنجانَ قهوة ذلك الصباح. وصلتُ متأخّرةً جدًّا على موعد الزيارة. تجاوزني خمسةُ أشخاصٍ على الأقلّ، ولامَتْني بشدّةٍ مسؤولةُ القسم قائلةً إنّه من عدم الاحترام أن أتأخَّرَ هكذا. إعتذرتُ وقلتُ إنّني سأنتظرُ كلَّ الوقت اللازم لو كان ذلك ضروريًّا أو أحدِّدُ موعدًا في يومٍ آخر. أجابت: “إجلسي هناك وانتظري”. جلستُ بقلبٍ مليءٍ بالبهجة، مُفعمٍ بالفرح.
ساندي