شخصٌ في ضيق
ذات يوم، ونحن خارجون من القدّاس، اقتربَتْ منّي فتاتان أفريقيّتان تطلبان المساعدة. شرحتا كيف أنّهما دون عمل وأصبحتا بالتالي في وضع دقيق. أعطيتُ ما استطعت ووعدتُ بتأمين الثياب. لكنّ جانيت – ولْنُسَمّها كذلك – كانت تريد بشدّةٍ العودةَ إلى بلادها. غير أنّها لا تحملُ أوراقها الرسميّة ولا تملكُ مالاً وتعيشُ عند رفيقتها.
بعد أسبوعين، اتّصَلَتْ جانيت وطلبتْ منّي مساعدتها، لأنّها لم تَعُدْ قادرةً على البقاء مع صديقتها التي تعيش حياةً غير مستقرّة وتستقبلُ شبّانًا في المنزل. ذهبتُ للقائها في محاولةٍ منّي لمساعدتها. تقابَلْنا في مطعم، ورأيتُ كم كانت فرِحَةً لِمُجَرّد أن الْتَقَتْ شخصًا يُصغي إليها ويتناولُ معها الطعام. شرحتْ لي ما آلَتْ إليه حالُها، ووعدتُها بأن أضمَنَ لها التواصُلَ مع أحد المحامين وأعطيْتُها بعض المال. بدأتُ أسعى لأجدَ لها عملاً، ولكنّها سرعان ما وجدت بعد أيّامٍ عائلةً لِتَعْمَلَ عندها لِقاء وعدٍ بتشريع وَضْعِها. وبدت الأمور وكأنّها تسير إلى الحلحلة، وكانت جانيت تتّصلُ من حينٍ إلى آخر للإطمئنان.
بعد قُرابة ثلاثة أشهر، اتّصلت جانيت مضطربةً وباكيةً لتقولَ لي إنّ العائلة التي تعمل لديها لا تريد تسوية أوضاعِها وتُعطيها مهلة أسبوعٍ واحدٍ لِتَتْرُكَ المنزل. وهي لا تعرف مكانًا تذهبُ إليه وهي لا تريدُ أن تصرُفَ ما جَمَعَتْهُ من مال وقيمته ٤۰٠ دولار، لأنّها مُصرّةٌ على شراء بطاقة السفر والعودة إلى بلدها.
تكلّمتُ مع زوجي وقرّرنا أن نعرُضَ عليها أن تأتي وتبقى عندنا طوال المدّة التي تحتاجُها لتأمين السفر، فالبيتُ كبيرٌ وشبهُ فارغ. نعرف أنّ في الأمر مجازفة، بخاصّةٍ وأنّه كانت لنا تجربةٌ مؤلمةٌ تتعلّق بالظلم الذي تتعرّضُ له العاملات. الأشخاصُ القليلون المُطّلعون على الوضع لم يُشجّعونا أو أنّهم عرضوا علينا أن نستفيد من حالها ونطلب منها المشاركة في الأعمال المنزليّة في بيتنا الكبير. بالنسبة إليّ، لم أشأ أن أرى فيها سوى فتاةٍ في حالٍ صعب وتطلبُ المساعدة. فكّرتُ بالسامِرِيّ الرحيم الذي خالف هو الآخر القواعد ليُساعِدَ رَجُلاً محتاجًا.
وهكذا دخلت جانيت بيتنا ضيفة. كانت سعيدةً وتشعرُ أنّها بين أهلها. غير أنّها لم تجلس مكتوفة اليدين، بل كانت تطاردُ قنصليّةَ بلادها كي تحصُلَ على جواز سفرها وتعود إلى بلدها. كنّا نساعدُها قدر المستطاع، كنّا على سبيل المثال نؤمّنُ لها وسائِلَ النقل الضروريّة، أو ننتظرُها حين تذهب إلى موعدٍ ما، أو نُعطيها بعض المال… كانت تراودُنا الشكوكُ أحيانًا، وهذا أمرٌ بشريّ، حول ما إذا كانت تحاول أن تستفيدَ من ضيافتنا أكثر من اللازم، وحول ما إذا كنّا نقوم بالصواب بمساعدتها كما نفعل. في كلّ مرّةٍ، كنتُ ألجأُ إلى الصلاة وأطلبُ من الروح تنويرًا.
لم نطلب منها أبدًا أن تساعدَ في الأعمال المنزليّة، ولكنّها كانت تتصرّف كابنة العائلة فتساعد حين ترى ذلك مناسبًا، وتهتمّ بأخبار بناتنا في الخارج، وتطرحُ أسئلةً حول العائلة ووالدتي… كانت تُرافِقُنا إلى القدّاس وفي نزهاتنا. وكنّا نفرح حين تنادينا “بابا” و”ماما” بخاصّةٍ أنّنا نعرف أنّ التقاليد الإفريقيّة تدعو إلى اعتماد هذه التسمية مع من يعامِلُنا بالحسنى.
بعد شهرين، حصلت على تأشيرة الخروج والمغادرة. وعندما بدأت بتوضيب حقيبة السفر تركت لي بعض الثياب الجديدة قائلة: “خُذي ماما، وأعطي هذه الثياب لمحتاجين، فلا أريد أن أحملها معي”. كانت تريد المشاركة بثقافة العطاء كما شاهَدَتْنا نُمارِسُها.
عند وصولها إلى بلدها اتّصلت بالفوكولاره، التي كانت قد تعرّفت عليها في رحلةٍ للعائلات الجديدة معنا. واصطحبت معها إلى لقاء الفوكولاري أختها التي كانت قد الْتَحَقَتْ ببدعَةٍ إنجيليّة.
منذ ذلك الوقت ونحن على اتّصال بجانيت. عادت إلى عائلتها وابنها الصغير، وهي تنتظر مولودًا جديدًا، بنتًا سوف تُسَمّيها باسمي. بالنسبة إليّ، هذه هديّةٌ جميلة، والأجمل ولادةُ علاقةِ مَحَبَّةٍ وثقةٍ بيننا. لقد أُعطاني الله المئة ضعف مِمّا أعطيت.
لم تكن هذه التجربة دائمَا سهلة. فالعيشُ شهرين مع شخصٍ مختلفٍ لا نعرفُ عنه وعن ثقافته الكثير، كان يؤدّي أحيانًا إلى بعض التوتّر. ففي حياتنا اليوميّة كان لا بُدَّ من أن نفردَ لها مكانًا في برنامجنا. كما أنّه كان من الضروريّ أن نبقى متحفّظين جدًّا لآنّنا لم نكن نثقُ كثيرًا بالذين كان بمقدورهم أن يخلقوا لنا المشاكل. كما كانت الشكوك والتساؤلات تطفو إلى السطح من حينٍ إلى آخر: هل عملنا الصواب؟ هل بالغنا في مكانٍ ما؟ هل كانت صادقةً معنا؟
تجاوزنا كلَّ ذلك بالعيش يوميًّا محبّة الأخ ببساطة، باللجوء إلى الصلاة في كلّ مِحْنَة، وبأن نُحبَّها كما كانت تريد أن نحبَّها في وضعها الاستثنائيّ.
أن نحبَّ وأن نَمُدَّ يَدَ العون إلى الآخر إنّما هو التزامٌ يتطلّبُ الكثيرَ من الجهد. إلاّ أنّ هذه التجربة تشجّعني على المضيِّ في هذه الطريق، طريق المحبّة المسيحيّة.
ف. ك.
Spread the love