لا تزال مقالاتُ المطران جورج خضر التي كنّا ننتظرها كلّ سبت في جريدة النهار كنزًا لنا في بُعْدَيْها الروحيّ والإنساني.
حاوَلْنا في هذا التأمّل أن نسْترْجِعَ بعض ما كَتَبَه في موضوع الصوم عبر إظهار: أوّلًا بُعْد “الاِمساك”، ثانيًا كيف نَجْعل صَوْمَنا “طيّبًا”، وأخيرًا كيف نكون صائمين حتّى منتهى الدهر.
الصوم
كلّ الديانات الكبرى التوحيديّة وغير التوحيديّة مارسَت الصوم واعتبرَتْهُ تقرُّبًا من الله.
وبما أنّ الطعام تربيةٌ لهذا الموجود فينا الذي نسمّيه الجسد، نُمسكُ عنه للإنصراف إلى ما هو فوق الجسد ومن هذا الفوق إلى الله.
الصوم الطيّب
أنت تفرغ نفسك من الطعام أو من بعض من طعامٍ لتعترفَ أنّك فقيرٌ إلى خبز الله. الإمساك رمزٌ إلى فقرك إليه. إنّه ترويضُ النفس على فقر إلى ربّها وإلى الآخرين. تُفرغ نفسك من الطعام وتملؤها بالصلاة وقراءة الكلمة. أنت تحرم نفسك لتُحبّ. ما عدا ذلك شكل. نحن لسنا ضدّ اللّذة. نحن ضدّ الإستلذاذ. لسنا ضدّ الجسد ولكن ضدّ السعي إلى الجسد سعيًا مجنونا.
وكيف تسير إلى الله الكامن فيك ثمّ إذا أدركته تكون وراءه وإذا وصلت إليه يأخذك معه أو يأخذك فيه.
وهذا لا يتمّ إلاّ بالفرح إذ يقول في الكتاب: “فإذا صُمتَ فادْهَنْ رأسك واغسل وجهك لئلاّ تظهر للناس صائمًا بل لأبيك الذي في الخفية. وأبوك الذي يرى في الخفية يجازيك علانيّة”.
أنت لا تصوم للناس ولكن تصوم مع الناس. تضمُّهم إليك أي تلغي بالسماح عنهم خطاياهم لأنّك إن لم تَسْتَدخِلهم قلبك فليس اللهُ في قلبك. تفريغُ قلبك من التأذّي الذي حصل فيه شرطُ سُكنى الله فيك.
الصوم ليس هو مجرّد حمية. ما يحميك في الحقيقة ربّك ويحصنك. حاول أن تذهب كلّ يوم إلى الكنيسة على الأقل مرة عند المساء لتنزل عليك معاني التوبة لتتحرّر من حُبّ الرئاسة والكلام البطّال، كما يقول افرام البارّ، وتكتسب “روح العفّة واتّضاع الفكر والصبر والمحبّة”. إتّضاع الفكر محورُ هذه الطلبات. تدرَّب على ألاّ تعتبر نفسك شيئًا حتّى يصبح الله في عَيْنيْك كلّ شيء، فهو الذي أقامك من العدم إلى الوجود. هل تستطيع أن تقول مع بولس: “جاء المسيح يسوع ليخلّص الخطأة الذين أوّلهم أنا”؟.
أنت صائمُ الدهر
أنت تمسك لتُحبّ. إن أنت اخترت الفقر تكون قد اخترت العطاء.
تتروّض في الصوم أن تعرف أنّك لا تتكوّن ممّا تأخذ ولكن بما تُعطي. وبهذا المعنى أَأمْسَكْتَ أمْ لم تُمسِكْ أنت صائمُ الدهر، أي المؤمن أنّ الله وحده هو الذي يندمجُ بك وأنّك تُصبحه. لذلك كان هو في العمق الحبيب الوحيد. أنت صائم الدهر إذا أدركت وأحسست أنّكَ لا تُدخِل إلاّ الله إلى نفسك. هذه هي مرتبة الحبّ التي تفوق كلّ معرفة. كيف تصيرُ إلهيًّا وأنت بشر، هذا هو السؤال الوحيد إلى ان يخطفك ربُّكَ إليه في اليوم الأخير ولا ترى إلاّ وجهه. كلُّ ترويض الصوم يعني شيئًا واحدًا، أن ترى وجهَ الله وحده. هذا هو الحُبّ الأخير. عند ذاك لا تسأل عمّا هو لك وعمّا هو له. أنتَ وما عندك وما فيك له.
فقط اذا أدركت ذلك تكون صائم الدهر