زلزالٌ وبُنيانٌ من العطاء
بعد الزلزال الذي أصاب جنوب تركيا وشمال سوريا، بدأت تصل الأخبار المفجعة إلى العالم بأسره. نودّ أن نشارككم بأخبارٍ من تركيا، لربّما لم تصلكم عبر الصحف والأخبار، فقد وافانا بها أصدقاؤنا من هناك:
إنقاذُ من هم تحت الأنقاض، هو ما تطلّع إليه الجميع لأيّامٍ متواصلة.
من هو تحت الأنقاض يناضل للبقاء حيًّا… ومن هو فوق الأنقاض يناضل لإنقاذه… تضحياتٌ دون حساب ودون ترداد، مثل ذلك المنقذ الذي وهو في خضمّ مهامه، وقع عليه ما تبقّى من المبنى فيما كان يحاول رفع من رقد تحت ركامه. إهتزّ المبنى، وارتجّت الجدران المتبقيّة فجأة، ووقعت عليه… فهرع من في الخارج لسحبه من تحت الركام. نهض، ونظر إلى نفسه لهنيهاتٍ معدودة ليلاحظَ أنّه لا يشكو من أيّ كسر، فتابع عمله دون أن يعبأ لنفسه مرّةً أخرى. متطوّعون آتون من مناطق أخرى، يحتضنون بعضهم بعضًا كلّما قدروا أن ينتشلوا أحدَهم حيًّا، لكأّنه أخوهم أو أبوهم، أو فردٌ من عائلتهم، في حين كان أفراد العائلة بعيدين عن موقع الحادثة حتّى يفسحوا المجال للمختصّين بالقيام بعملهم. معجزاتٌ متتالية وتأثُّرٌ إنسانيٌّ بالغٌ تُرجمَ بمحبّةٍ عمليّةٍ وعطاءاتٍ دون حدود…
كتب لنا الأب أنطوان من اسكندرون يقول: “أصدقائي الأعزّاء، نعم انهارت الكاتدرائيّة… انهيارًا فظيعًا بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى! ولقد كنّا هنا، البارحة بالذات، نحتفل بالقدّاس الإلهيّ… لكنّ اليوم، الحجارة الحيّة هي التي بأمسّ الحاجة إلينا. يعجّ المكان بالأصدقاء المسلمين والمسيحيّين الذين فقدوا مسكنهم، وفقدوا كلّ شيء معه. معًا نتشارك بما لدينا… يبكون فنبكي معهم، يتألّمون ونحن معهم… ما أصعب أن نجد كلمات تعزيةٍ لمن خسروا أحبّاءهم ومنازلهم، الحجر والبشر…
راحت تمرّ قوافل الشاحنات محمّلةً بجثث قتلى الفاجعة التي انتُشلت من تحت الأنقاض، وُضع البعض في توابيت والبعض الآخر في ملاءات وآخرون لم يحظوا حتّى بذلك. كانت السماء ممتلئة بالمروحيّات، بعضها لإطفاء النيران، والأخرى محمّلة بالمساعدات.
رجال إنقاذ… والكلّ يبذل قصارى جهده لتوزيع المساعدات. في غضون ذلك، يغادر الكثيرون نحو أماكن آمنة بعض الشيء، ويصل آخرون ولا يعرفون بعدُ إلى أين؟!
لكنّنا لسنا وحدنا… وفي كلّ لحظة، ومع كلّ نَفَس، أجد نفسي أشكر الله على الحياة التي وهبنا إيّاها حتّى نبذلَها في مساعدة الآخرين.
نحن في اليوم الثالث… أسير متفقّدًا الأحياء الأكثر تضرّرًا، مناطق منكوبة ومبانٍ منهارة ورجلُ فقيرٌ من الرعيّة، بقي هناك بمفرده بين الأنقاض، يطلب منّي أن أباركَه، ثمّ يعطيني خمسة أرغفةٍ تركيّة “البيدي”، ويقول: “للآخرين!”. لم أشأ أن آخذها لكنّه أصرّ… وبكلّ طيبة خاطر قبلت. لقد عدت اليوم إليها، وكما قلت لم تعد موجودة، لكنّي رحت أتفحّص المذبح الرخاميّ القديم الذي كنّا قد غطّيناه بقطعةٍ من القماش، ومن ثمّ رفعت نظري صوب تمثال العذراء مريم الذي بقيَ واقفًا وقلت لنفسي: نعم، سوف نعاود الإحتفال بالقدّاس هنا مجدّدًا وقريبًا جدًّا…”.
إعداد ريما السيقلي