رضاعة الثدي وفوائدها اللامتناهية
رضاعة الثدي هي أمرٌ طبيعيٌّ عند الإنسان، شأنُهُ شأنُ جميع الثدييّات التي تُرضعُ صغارَها بعد الولادة. فحليبُ الأمّ هو الغذاء الكامل والأنسب للمولود الجديد فهو يرغبُهُ غريزيًّا، كما أنّه قادرٌ على امتصاصه عبر جهازه الهضميّ الهشّ، وليس هناك حاجةٌ إلى أيّ سوائل أو غيرها من المواد الغذائيّة. يوفّر حليب الثدي جميع العناصر الغذائيّة من البروتينات والفيتامينات والمعادن التي يحتاجُها الرضيع للنموّ، وبالإضافة إلى ذلك، حليبُ الثدي يحمل الأجسام المضادّة من الأمّ وهي كافيةٌ لمكافحة الأمراض لحين اكتمال تكوين جهازه المناعيّ الخاصّ به.
على الرغم من تدعيم الأدلّة في السنوات الأخيرة عن فوائد الرضاعة الطبيعيّة، ولا سيّما المكاسب الاقتصاديّة الناجمة عنها، فإنّ الترويج للرضاعة الطبيعيّة عالميًّا لأكثر من ستّة أشهر يُراوح مكانه.
معدّلات الرضاعة الطبيعيّة تختلف بشكلٍ كبير. وهي واحدةٌ من السلوكيّات الصحيّة الإيجابيّة القليلة التي هي أكثر شيوعًا في البلدان الفقيرة. في البلدان ذات الدخل المنخفض، نجد أنّ رضاعة الثدي عند معظم الأطفال ما زالت قائمةً حتّى عمر السنة، مقارنة مع أقلّ من ۲٠٪ في الكثير من البلدان الغنيّة. وهي أقل من ۱٪ في المملكة المتّحدة. الأسباب التي تحمل النساء على تجنُّب أو وقف الرضاعة الطبيعيّة متعدّدة. بعضُها طبيّ، وبعضُها ثقافيٌّ أونفسيٌّ أو جسديٌّ كعدم الشعور بالراحة والإنزعاج، كما أنّ بعضَها سَبَبُهُ جَهْلُ الأمّ أوتقصيرٌ في إرشادها عن الفرق الكبير في المكوّنات الغذائيّة لحليبها الطبيعيّ، مقارنةً مع تركيبة حليب الأطفال المُصنّع والمُعَلّب. هذه الأسباب لا يمكن اعتبارها تافهة، إذ أنّ الكثير من الأمّهات اللواتي لا يَلْقَينَ الدعم والإرشاد اللازمِيَن، يَنْتَقِلْنَ تلقائيًّا من إرضاع الثدي إلى رضاعة الزجاجة.
ما هي الفوائد من إرضاع الأمّ لطفلها
وفقًا لنتائج دراسة استقصائيّة جديدة، التغذية والفوائد الصحيّة هي العامل الأكثر أهميّة بالنسبة للنساء اللواتي قرّرْنَ إرضاعَ أطفالهنّ لأكثر من ۱۲شهرًا. بناءُ علاقةٍ قويّةٍ بين الأمّ والطفل حصلت أيضًا على تصنيفٍ مرتفع.
حليبُ الأمّ يجعل العالم أكثر صحّة، أكثر ذكاء وأكثر مساواة. هذه هي استنتاجات سلسلةٍ لانْسيتْ LANCET الجديدة عن الرضاعة الطبيعيّة: وفاة ٨۲۳٠٠٠ طفلٍ و ۲٠٠٠٠ أمٍّ سنويّا يمكنُ تفاديها من خلال الرضاعة الطبيعيّة، جنبًا إلى جنبٍ مع تحقيق توفيرٍ إقتصاديٍّ يعادل ٣٠٠ مليار دولار. الدراسات أكَّدَتْ فوائد الرضاعة الطبيعيّة عند الأطفال في تخفيض الالتهابات المكروبيّة، زيادة معدَّل الذكاء والحماية المحتملة ضدّ زيادة الوزن ومرض السكّري، كما الوقاية من سرطان الثدي للأمّهات المرضعات.الرضاعة وجهاز الإنسان المناعيّ
يحتاج الطفل المولود طبيعيًّا إلى ألف يومٍ تقريبًا لبناء جهازه المناعيّ وذاك منذ بداية الحمل، أي فترة الحمل إضافةً الى سنتين بعد الولادة. إنّ مرورَ الطفل، خلال الولادة الطبيعيّة، بالقنوات الطبيعيّة لأمّه، يُوَفّر له دفعةً كبيرةً من الفلورا المكروبيّة الجيّدة، تغطّي جسمَهُ وتزدهرُ داخل جهازه الهضميّ، المكان الذي يتكوَّن فيه ما يقارب ٧۰٪ من جهازه المناعيّ. من ثمّ تأتي رضاعة الثدي لِتُكْمِلَ تقوية الفلورا المعويّة. أمّا حليب الأمّ الغنيّ بالسوائل المُغذيّة لخلايا الإمعاء، والخالي من أيّ موادٍ مُحَسّسَة، كتلك الموجودة في حليب الفورمولا، فيُقوّي الرباط بين تلك الخلايا، لتصبحَ حاجزًا منيعًا يصعبُ تجاوُزَهُ من قبل الطُفَيْليّات وغيرِها من المشتقّات المُضِرّة. إنّ الأطفالَ الذين تتوفّرُ لهم ظروفٌ مماثلة، هم على الأرجح بصحّةٍ جيّدة، وأقلّ عرضةً لأمراض الحساسيّة والإلتهابات المعويّة وأمراض المناعة الذاتيّة.
الرضاعة وفوائدها للأمّ المرضعة
– الرضاعة تحفّز إفراز الأوسيتوسين OXYTOCIN عند الأمّ وهي هرمون لها وظائف عدّة. فهي تساعد في تقلّص الرحم بعد الولادة ورجوعه لحجمه الطبيعيّ، إذ يكون قد ازداد حجمه عشرين مرّة خلال الحمل، وبالتالي تساهم بالتخفيف من خطر النزف ما بعد الولادة. وهي تحفّز إفراز الحليب خلال الرضاعة ليتوقّف عند انتهاء الوجبة، ليعودَ من جديدٍ عند الرضاعة التالية. كما لها تأثيرٌ مهدّىءٌ للأمّ، وتحسّنٌ في نوعيّة النوم عندها، وهذا ما هي الأكثر حاجة إليه في هذه الفترة. كذلك فهي تلعب دورًا مُهمًّا في تقوية العلاقة والثقة بين الأمّ ورضيعها.
– كلّ رضاعةٍ تستهلك ما يعادل ٥۰۰ وحدةٍ حراريّة، وهذا يساعد الأمّ المرضعة باستعادةٍ صحيّة لوزنها ما قبل الحمل.
– رضاعة الثدي هي سهلةٌ للأمّ وعَمَليّة، خاصّةً خلال الليل، فحليبُ الثدي جاهزٌ “غبّ الطلب” ويأتي بالحرارة المناسبة.
التوصيات
المعهد الأميركيّ لطبّ الأطفال يوصي بالتالي: حليب الإنسان هو الغذاء الأفضل لجميع الأطفال بما في ذلك أطفال الولادة المبكرة وحديثي الولادة المرضى. ويوصي بأن تدوم الرضاعة لفترة سنةٍ على الأقلّ ومن بعدها تكملُ بما يناسبُ الطرفين!
منظمّةُ الصحّة العالميّة OMS توصي بإرضاع الثدي بالكامل لعمر الستّة أشهر، وبعدها مرتّين في اليوم أي صباحًا ومساءً لمدّة سنة. وهذا الحلُّ يُناسب الأمّهات اللواتي رَجَعْنَ للعمل أو الوظيفة بعد ستّة أشهرٍ من الولادة.
المحفّزات
ألتحفيز الأساسيّ يجب أن يأتيَ من خلال الإدارات الحكوميّة بشكل مساعداتٍ للأمّهات بعد الولادة وعُطَلٍ مدفوعةٍ لستّة أشهرٍ أو أكثر، وتأمين الإرشادات الضروريّة لتسهيل عمليّة الرضاعة. فالرضاعة الطبيعيّة تعود بالنفع على الطفل والأمّ والعائلة والمجتمع بأكمله، كونها تساهم بإنتاج أفرادٍ ذوي صحّةٍ جيّدة، وبتخفيض كلفة الرضاعة والفاتورة الصحيّة الإجماليّة.
يبقى أن نوضحَ بالنهاية أنّ الهدفَ من هذا المقال بالمرتبة الأولى هو الإرشاد ونشر المعرفة عند الأمّ والأب والعائلة بمُجملها، أمّا القرار النهائيّ فيعود للأمّ.
صحّة الطفل الرضيع تتطلّب أمًّا مرضعةً بصحّةٍ جيّدة، أخذت قرارها بنفسها. بالتالي إذا اختارت الأمّ عدم الإرضاع فإنّه ليس واردًا أن نشعِرَها بالذنب بأيّ شكلٍ من الأشكال. ف “بِيبْرونَةٌ” معطاةٌ بمحبّة أفضل من إرضاعٍ على مضض. دعونا لا نُحمّل الأمّهات أكثر من طاقتهنّ، فالمرأة غالبًا ما يُوحَى إليها أنْ عليها تقديم الأكثر، إذ وجب عليها أن تكون بالوقت نفسه، امرأةً خارقة على الصعيد المهنيّ، وخارقة الجمال ودائمًا بمظهرٍ فتيّ، أمًّا وزوجةً خارقة! هذا أكثر ما تستطيع تحمّلَهُ خاصّةً بعد امتحان الحمل والولادة. لِنَدَعْها إذًا تأخذ قرار إرضاع طفلها بسلامٍ وحريّةٍ مُطْلَقة، فهكذا قرار يتطلّبُ كثيرًا من الشجاعة والتحفيز الذاتيّ.

الدكتور جورج خليل

portrait-15

Spread the love