دررٌ متناثرة

ليست الصلاة مجرّد كلامٍ أطلقُه، أو رغبة أُبديها، أو عاطفةٍ أُظهرُها، أو نصٍّ أقرأه، أو فرضٍ أؤدّيه، الصلاة هي أن أضعَ نفسي وكلّ إمكانيّاتي بتصرّف الله لأكونَ الوسيلةَ التي يستخدمُها في استجابته للصلاة.

بحثتُ عن الفرح، فذهبتُ إلى الضحك، ووجدتُ الضحّاك نفسه يبحثُ عن الفرح. ذهبتُ إلى اللّذة، فوجدتُ هناك التعاسة. ذهبتُ إلى الله، فوجدتُ السلامَ والغفرانَ وراحةَ الضمير والقناعةَ والرضى والصداقة، وكلّها في المحبّة، فوجدتُ الفرح.

في وقتٍ ظننتُ فيه أنّ كلَّ أبواب الفرج مغلقة، وفي وقتٍ لا أتوقّعه، أتاني الفرجُ من حائطٍ لا أرى فيه بابًا، فاللهُ لا تُعيقُهُ أبوابٌ وجدران. فكلّ شيءٍ مكشوفٌ وعريانٌ لدى ذاك الذي معه أمر حياتِنا، وهو لا يعرفُ المستحيل. وتعلّمتُ أنّ بابَ الفرج هو الثبات في الإيمان، والإيمان يُبقي الرجاءَ فينا.

أنا أعبدُ الله ليس لحاجةٍ في الله إلى عبادتي فاللهُ غنيٌّ مُستغنٍ، وليس لإظهار خضوع العبد إلى سيّده، فعلاقتي بالله هي علاقةُ الحبيب بحبيبه. أنا أعبد الله ليس خوفًا من ناره ولا طمعًا في سمائه بل لأنّ في بُعدي عن الله نارًا تحرقني وقربي منه سماءٌ تُسعدني.

إنّ مدى تأثير كلامي في الآخرين يتعلّق بمصدر الكلام الذي أقوله وبمدى إيماني بما أقول وتأثيره عليّ وعيشي إيّاه. عندما يكون اللهُ مصدرَ الكلام وأنا أقوله بعَيْشي إيّاه وصار جزءًا من حياتي، فسيكون للرسالة الإلهيّة تأثيرٌ بليغٌ على المحيطين بي. وأبْلَغُ كلامٍ إلهيٍّ هو عَمَلُ المحبّة.

عندما أحزن لأنّ من أحْبَبْتُهُ لا يُقابلني بالحبّ نفسه، فيكون حبّي غير حقيقيّ وليس على مثال الله، وأكون أستخدمُ الحبَّ لتعظيم الأنا، وهذا نوعٌ من الوثنيّة. لقد أحبّني اللهُ مجّانًا ولا ينتظر المقابل منّي إلاّ قبول هذا الحبّ. الحبّ الحقيقيّ حبٌّ مجّانيّ، يُعطى بفرحٍ وليعطيَ الخيرَ والفرحَ للمحبوب.

يُمكنني أن أعطيَ الآخرين حبًّا فقط عندما تفيضُ حياتي بالحبّ لأنّ فاقدَ الشيءِ لا يُعطيه. ومَن غير الله يُمكنه أن يُفيضَ حياتي بالحبّ؟ فوحده ينبوع حبٍّ لا يَنْضَب، ويمكنني الغرف منه ما دُمتُ أشعر بالعطش إلى الحبّ وأستطيع أن أستوعب. وطوبى للعطاش إلى حبّ الله لأنّهم يُرْوَوْن.

الاتّكالُ على الله لا يعني ترك الأمور على حالها، أو ترك الظروف توجّهها إلى حيث لا أريد ولا يريد الله، بل العمل مع الله للسيطرة على الظروف وتَسْخيرها بطريقةٍ تجعل الأمورَ تُحقّق إرادة الله في حياتي.

كيف أتصوّرُ اللهَ وأعرفُه أكونُ أنا. فإن كان اللهُ بالنسبة لي ذلك السيّد القاسي، الديّان المؤدّب المُنتقم المُدمِّر، فأكون أنا عبده الذي يعبده لتحاشي بَطْشِه، وتكون نظرتي إلى الآخرين نظرةَ دينونة، وأفرح عندما يُصابون بضربةٍ لأنّي أعتقد أنّ اللهَ ضربهم. أمّا إنْ كان اللهُ لي الصديق الصدوق، والأب الحنون والأمّ الرؤوم والحبيب المخلص، فأنا أعيش مع نفسي ومع الآخرين في بحرٍ من الحبّ.

بحضور النور، تتبدّد الظلمة. بِعَيْشِ الحبّ الإلهيّ يندحرُ الموت في حياتي وحياة من أحبّهم لأنّ الحبَّ أقوى من الموت. الحبُّ الحقيقيّ هو الحياةُ الإلهيّة التي تُحيي الموتى، فكم من إنسانٍ مات يأسًا لأنّه لم يجد من يحبّه، وكم من مَيْتٍ يائسٍ قام من الموت لأنّه تقبّل الحبّ الإلهيّ بواسطة إنسانٍ أحبّه بالحقّ.

وهو علّمها للمؤمنين به الذين يعيشون حضوره. لغةُ المحبّة تؤهّلُني أن أفهمَ كلَّ من يحتاج إلى محبّتي، فيتعلّم هذه اللغة هو أيضًا بطريقةٍ عمليّة، وتجعلني أخًا لكلّ من يتكلّمها من أيّ خلفيّةٍ كان، ومصدرُ أخوّتِنا ومنشّطُها هو روحُ الله لأنّه مصدرُها.

معرفتي بالله اليوم تختلفُ عن معرفتي به في طفولتي. ليس لأنّ اللهَ تغيّر، فهو ثابتٌ أبدًا لا يتغيّر، بل لأنّني أنا تغيّرت، فكبرتُ ونضجتُ وازدَدْتُ معرفةً وخبرة. الأهمُّ هو أنّ ذهني يتجدّدُ باستمرار. وفي كلّ تجديد، تتجدّدُ معرفتي بالله، وكلّما تعمّقتُ في فِعْلِ الحبّ تعمّقتُ في معرفتي لله لأنّ الله محبّة.

الحياةُ العامّة مختبرُ الإيمان والنوايا حيث يتعرّضُ إيماني ونواياي للتجربة. فإمّا تثبتُ صحّةُ إيماني وسلامة نواياي بنتائجَ متجانسةٍ مع النظريّات والادّعاءات، وإمّا يثبتُ العكس. ويبقى إيماني مجرّد تمارينَ فكريّةٍ ما لم يتجسّد بأعمال محبّة.

ليس المهمّ من قام بعمل الله، بل المهمّ أنّ العملَ تمّ. فمن قام به هو إنسانٌ من عِباد الله، وهو أخي (أختي)’ وله عليَّ حقّ الدعم ولو لم يكنْ من مذهبي وطائفتي. فعملُ الله أهمّ من الشخص الذي قام به.

إن كانت سعادتي بما أُعطيه أكبر من سعادتي بما آخذه، وإذا كان عطائي يملأ حاجةً مُلحّة، ويعطي الفرح لحزينٍ، والتعزية لتعيسٍ، والأمل ليائسٍ، فأنا أسير في درب الله، وأكون في صدد مساعدة الآخرين على السير في الدرب نفسها.

                                                                                                                                            عيسى دياب

أستاذ جامعي في الدراسات الساميّة

                                                                                                         

Spread the love