في يومنا هذا وفي مجتمعٍ متطوّرٍ علميًّا وصناعيًّا، يُخيّلُ إلينا أنّنا نستطيع أن نتحكّمَ ونُسيطِرَ على الظواهر الطبيعيّة. نشعر أنّنا الأسياد وأنّ على الطبيعة الإذعان لنا.
ها نحن اليوم نتخبّط في شراك أزمةٍ أطلقنا عليها إسم الأزمة البيئيّة. إنّها تسميةٌ تُعبّرُ عن سلبيّات العلاقة ما بين الإنسان والطبيعة. إنْ تساءَلنا عن السبب وأمْعَنّا التفكير في الموضوع بَطُلَ العَجَب، وتجلّى لنا بوضوحٍ أنّ الإنسان في إبداعه وعبقريَّتِه، لا يَحترِم القِيَمَ الإنسانيّة ويَسعى للربح والمَكسَب وحسب، مُتستّرًا وراء الإنماء الإقتصاديّ والإجتماعيّ.
إنّ هذه الأزمة ليست بمشكلةٍ آنيّةٍ يُمكِنُ حَلَّها ببعض الإجراءات التقنيَّة العِلميَّة أو الإقتصاديّة والسياسيّة. إنّها مشكلةٌ كَوْنِيَّة، ويجبُ أن تضَعَ على بساط البحث نَمَطَ عَيْشِ الشعوب الغنيّة.
نحن نُدرك أنّ الأضرار التي نُلحِقُها بالطبيعة تُهدِّد أُسُسَ الحياة وتُشعِرُنا بالقلق. علينا إذًا أن نُعزِّزَ صَحْوَة ضميرنا ونقاوِمَ هذه الإعْوِجاجات.
إنْ كان الإنسانُ سببًا للأزمة البيئيّة، فهو أيضًا صاحبُ الحلّ. على الإنسان أن يكون في موقفٍ جديد، فهو جزءٌ من الطبيعة ويُمكِنُهُ تحقيقَ ذاته إن هو بَذلَ نفسه في خدمَتِها وخدمة الآخرين. علينا أن ننتقِلَ من نظرةٍ أحاديّةٍ فرديّةٍ إلى نظرةٍ شاملةٍ جماعيّة، تهدف إلى تكوين عائلةٍ بشريّةٍ منتشرةٍ عبر القارّات الخمس. إنّ عِلمَ البيئة هو خيرُ وسيطٍ بين الشعوب لتبادُلِ الآراء والمفاهيم والمواهب، إنْ على المستوى الإجتماعيّ أوالسياسيّ أو الإقتصاديّ… وهذا يساعد بالتأكيد على بناء عالمٍ أكثر أخوّة.
المؤمن والطبيعة
خلق اللهُ الإنسان والطبيعة ، فكيف يستطيع المؤمن أن يمجِّدَ الله ويُسبِّحَه إن لم يحترم الطبيعة وهي مِن صُنعِ يَدَيْ الخالق؟ “كيف تقول أنّك تُحبّ الله وأنت لا تراه وتُبغض أخاك وأنت تراه؟”. ويُمكننا أن نضيفَ على هذا القول: كيف يُمكنكَ أن تحبَّ الله إن لم تحبّ خليقته؟
ديناميكيّة المحبّة
تدعونا ديناميكيّة المحبّة بقوّةٍ وإلحاحٍ إلى التربية والإلتزام والعمل من أجل البيئة. فقد رأى أحدهم يومًا شابًّا يرمي ورقةً مُلوَّنة على الأرض، فأدرك أنّ هذا الشابّ لم يفهم بعد ماذا تعني كلمة “محبّة”… إنّ المحبّة تُتَرْجَم بأعمالٍ ملموسةٍ ويوميّة، وهذا ما يتطلّبه منّا علم البيئة. فعلم البيئة هو التزامٌ يوميٌّ نُعبِّرُ عنه من خلال تصرّفاتٍ يوميّة وبسيطة. والهدف من ذلك هو إحياء علاقة متناغمة ومتناسقة مع الطبيعة، تكون بمثابة عمل محبّةٍ حقيقيٍّ نقوم فيه من أجل إنسانيّة الغد.
نوردُ مقطعًا لكيارا لوبيك يُوضِحُ هذه العلاقة القويّة بين الله والإنسان والطبيعة. تقول: “كنتُ، وربّما بنعمةٍ خاصّةٍ من عند الله، أرى وجودَ الله في الأشياء. فإنْ كانت أشجارُ الصنوبر تبدو مُذهَّبةً تحت أشعّة الشمس، وإنْ كانت الجداول تتدفَّقُ شلاّلاتٍ برّاقة، وإن كانت السماءُ وزهرةُ الأقحوان وكلّ الأزهار تُعيِّدُ في فصل الصيف، كان تألُّقُ الشمس، من خلال كلّ هذا الخلق، يبدو أكثر توهُّجًا. كنت أرى الله، بطريقةٍ ما، يُنظِّمُ هذه الأشياء ويَعتني بها، ووجود الله داخل الأشياء يجعلها تبدو غير ما نراها عادةً، فكلُّها ترتبطُ ببعضها البعض بمحبّة، حتّى يُمكِننا القول أنّها كلَّها مغرمةٌ الواحدة بالأخرى. فإنْ رَمَت الساقية بنفسها في أحضان البحر، فهذا بفِعْلِ مَحبَّةٍ يكون، وإنْ انتصبَتْ شجرةُ صنوبر الواحدة جنب الأخرى فهذا أيضًا بفِعلِ محبَّةٍ يكون. القول “بفعلِ محبَّة” هو تعبيرٌ يَصعُبُ فهمه. كنتُ أرى محبّة الله تربطُ كلّ الأشياء ببعضها، تمامًا كشمسٍ باهرة، إلى حدٍّ يجعلني أرى هذه الوحدة المُعطاة من الله أقوى من الأشياء ذاتها. على الرغم من أنّي كنت أرى الأشياءَ في تميُّزها وكنت أراها مخلوقاتٍ من صُنع الله، كانت الوحدة التي تربطها الواحدة بالأخرى أقوى بكثير وكان وجود الله في الأشياء أقوى بكثير”.
من هنا ندرك أنّ “الخليقةَ هي عروسُ الخالق لأنّ الخالق أعطاها ذاته أي وهبها الحبَّ الإلهيّ”.
ليس المطلوبُ شنَّ حملةٍ للحماية والدفاع عن الخليقة بل، الإنخِراط في مشروعٍ إلهيّ يجعل الخليقة أجمل ويطوِّرها. نريد أن نعطِيَ مساهمةً فعّالةً ومُشترَكةً لمُواجهة المشاكل البيئيّة الخطيرة وذلك بإقامة علاقةٍ قويّةٍ وإيجابيّةٍ بين الإنسان والطبيعة من جديد.
جيرار ميّاك