من ثقافة القيامة
ها نحنُ نفتِّشُ عن شَمْسٍ أفضل من التي تُطْلِقُ أشِعَّتَها المُرْتجفةَ على وَطنِنا الغارِقِ في هاويةِ الأنانيَّةِ ومصالِحِ السياسيّين الخاصَّةِ والمُرْتزقين.
ها نحنُ نفتِّشُ عن تفاؤلٍ أضعناه، فَتُهْنا في تشاؤمٍ صحراويٍّ، غمرَ جمهوريَّتَنا الفتيَّةَ التي تواجِهُ أخطرَ أزمةٍ عرفتُها، منذُ قيامِها عام ١٩٢٠. نحنُ نبحثُ عنِ الهدوءِ وصَفاءِ الذَّاتِ اللذَيْن فقدناهُما، على مدى الأربعين سنةٍ الماضية؛ نبحثُ عنِ الشجاعةِ والمُشَجِّعِين، كي يَظَلَّ وجهُنا قادِرًا على عَكسِ وجه فادينا الجميل.
أيُّها الإخوةُ والأخوات، لقد عَرَفْتُ عَمل مريم، منذُ حوالي نصفِ قرن، كانت نِعْمةً كبيرةً بالنسبةِ إلى عائلتِنا، فاكتَشَفْنا كَنْزًا كبيرًا.ولن أنْسى، ما حَييت، فرحَ عائلتِنا الغامرَ إبَّان تلكَ الفترة.
زوجتي جاكلين وأنا، انْتَمَيْنا إلى العائلاتِ الجديدةِ من أربعين سنة؛ وبِفَضْلِ عملِ مريم، تحمَّلتْ رفيقةُ عُمري، طيلةَ سنواتِ مرضها الثلاث، أشدَّ الآلامِ وأقصاها، بابتسامةٍ عَذْبةٍ ووَجْهٍ مُشْرِقٍ وإيمانٍ فريدِ البساطةِ، تَحَمَّلت أوجاعها، فكانت كلماتُها وتصرُّفاتُها تَحْمِلُ إلى الذين يَأتون لزيارتها، البَهْجةَ والطمَأنينةَ والسلام. إنَّني مُتَأكِّدٌ مِنْ أنَّها تُرافِقُنا، خطوةً، خِطْوة، ولعلَّها تَجْلِسُ الآنَ إلى جانبي وأنا أكتب.
لقد تعلَّمتُ من عملِ مريمَ، أنَّ السَّعادةَ تُعدُّ وتُتْقَن، وأنَّ كُلَّ إنسانٍ يستطيعُ زرعَ الفرحِ في مُحيطِهِ البشريِّ، شرطَ أن يقبلَ حدودَهُ وأن لا يَغْفلَ عن إحصاءِ ما أُعطيَ من نِعَم.
إنّ الفوكولاري موجودةٌ في لبنان مُنْذُ ١٩٦٨، ونحنُ من خلالِها نواجِهُ التَّحدِّياتِ الصَّعبة، ونتحمَّلُ الآلامَ والمشَّقَّات الجسيمةَ أحيانًا، ونُحاوِلُ عيشَ قِيَمِنا المسيحيَّة، نتوصَّلُ، حينًا، في عيشِ تجارِبَ حِواريَّةٍ عميقةٍ معَ بعضِ مواطنينا، ونفشَلُ حينًا، بَيْدَ أنَّنا نُثابرُ ونبقى في الرجاء.
ها نحنُ لنؤَكِّدَ أنَّ يسوعَ المصلوبَ والمتروكَ، هوَ اليُنبوعُ الوحيدُ لزرعِ ثقافةِ القيامةِ ونشرِها في العالم.
أنيس مسلِّم
المحبّة كقوّة تغيير
كوني محاميًا، ألتقي العديد من الأشخاص، فتربطني بهم فيما بعد علاقةٌ مميّزة؛ تعرّفتُ مؤخّرًا على شخصٍ كنت أهتمُّ بملفّ دَعْواه. ذات مرّة، بعدما أنْهَيْنا ملفَّهُ بنجاح، قال لي إنّه لا يعرفُ ماذا يفعل لِمُكافأتي. فأجَبْتُهُ بجرأة: «عندما تذهبُ للصلاة في الجامع نهار الجمعة صلّ من أجلي». وشعرتُ من خلال هذه الدعوة أنّه تخطّى مسألةَ اختلاف الدّين، ونشأت بيننا علاقةٌ إنسانيّةٌ جميلةٌ وعميقة، من خلال الصلاة واحدُنا من أجل الآخر.
في أحد الأيّام، إتّصل بي في ساعةٍ متأخّرةٍ من الليل وأعلمني أنّ ابنَهُ موقوفٌ لأنّه يتعاطى المخدّرات، فقمتُ باللازم حسبَ القانون لإخلاء سبيله. بعدها أرادَ أن يُعَرّفني عليه وطلب منّي إقناعَهُ بالمعالجة وأخْبَرَني عن صعوبة العلاقة معه ومدى تأثير هذا الواقع على حياة عائلته. فقرَّرتُ مساعدته قَدْرَ الإمكان.
حَدَّدْنا موعدًا مع الإبن، إلاّ أنّ فكرة اللقاء كانت مربكةً لي، فالموقفُ صعبٌ وأنا غيرُ معتادٍ عليه. صلّيتُ وتذكّرتُ تأمّلاً لكيارا تقول فيه: إنّ فَشَلَنا في إيصال اللّه إلى آخرين يكون بسبب قِلَّةِ قُدْرَتِنا على أن نكون واحدًا معهم. فقرّرتُ أن أكونَ حقًّا واحدًا مع زائري. كان الاجتماعُ صعبًا؛ تطرَّقنا إلى مواضيعَ مختلفةٍ حياتيّةٍ ودينيّة. لكنّه عاد، والتقينا أكثر من مرّة، وأخبرتُهُ اختباراتٍ أعيشُها في حياتي وطريقتي في تخطّي الصعاب، منطلقًا من روحانيّة الوحدة. بعد أكثر من لقاء، إقتنع بالمعالجة وأرْشَدْتُهُ إلى شخصٍ مُتَخَصّصٍ في الموضوع.
إكتشفتُ من خلال هذا الاختبار القوّة التغييريّة للمحبّة والقدرة التي تمنحنا إيّاها لتغيير الآخَر في الظروف الأكثر صعوبة، بخاصّةٍ عندما نكون واحدًا معه؛ هذه النقطة من نقاط فنّ المحبّة تعطي للمحبّة المسيحيّة والإنسانيّة كُلَّ أبعادها.
ج.ن
الفرح الدائم
توفّيَ زوجي تاركًا لي خمسة أولاد، صغيرتُهم في التاسعة، وناديا الثالثة بينهم، طفلةٌ مجروحةٌ في ذكائها.
بعد وفاة زوجي بأشهر، جاءت والدتي من مصر لِتُقيمَ معي وتساعدَني على الإهتمام بالعائلة. ولكنّ إرادة اللّه كانت غير إرادتنا. فبعد أيّامٍ من وصولها مرضَتْ وتوفّيَتْ هي أيضًا. هكذا وخلال ستّة أشهرٍ خسرتُ زوجي وأمّي. وكنتُ في حالة حِدادٍ وحزنٍ شديدَيْن، لا يُخفّف من وطأتهما سوى إيماني باللّه واتّكالي على محبّته ووحدة الجماعة التي أنتمي إليها.
في هذه الأثناء وصلَتْ إلى لبنان جماعةُ «إيمان ونور». فاتّصلوا بي يسألون إنْ كنتُ أودُّ أن تشاركَ ابنتي ناديا معهم، فوافقتُ من دون تردّد. ذَهَبَتْ إلى أوّل لقاءٍ وعادَتْ فَرِحة، وشاركتْ في اللقاء الثاني… وكنتُ أنتظرُها في المنزل. في اللقاء التالي طلب منّي المُتّصل إنْ كنتُ أستطيعُ المجيء والمشاركة، بخاصّةٍ أنّهم بحاجةٍ إلى وسيلة نقل، وأنا عندي سيّارة. وهكذا كان. كان الجوُّ رائعًا، فيه فرحٌ كثير، في حين كنتُ أنا أجلس جانبًا في ثياب الحداد. تأثّّرتُ كثيرًا بأبٍ راحَ يُراقِصُ ابْنَتَهُ المصابة بإعاقةٍ وبنقصٍ في المناعة، كما تأثّّرت بالشباب الذين يهتمّون بفرحٍ ومحبّة «بالإخوة» كما يدعونهم. وفكّرت في ذاتي أنا المؤمنة: الملائكة في السماء لا يَحِدّون، إنّهم في فرحٍ دائمٍ يسبّحون اللّه. عندها قمتُ من مكاني وأمسكتُ بِيَدِ ابنتي وبدأتُ أرقصُ معها مُمَجّدَةً اللّه. ومن وقتها عدتُ إلى الحياة وتحمّلتُ لسنينَ طويلةٍ مسؤوليّاتٍ كبيرةٍِ في قلب هذه الجماعة التي خدمتُ فيها يسوع بفرحٍ والتزام. وكنتُ أعضدُ العائلات وأنا أتفهّمُهُم وأقدّرُ مشاكِلَهم لأنّني أعيشُها مع ابنتي في البيت. واستفدتُ شخصيًّا إذْ أصبحتُ قادرَةً على فهم ابنتي وقَبولِ محدوديّتها.
دنيز
ربّي إنزع عنّي الهالة السوداء
تَعرَّفنا زوجي شربل وأنا على روحانيّة الفوكولاري منذ أكثر من ٣٥ سنة. عِشْناها معًا بفرح، وشاركنا في معظم اللقاءات السنويّة. كنّا نحلم أن نزورَ يومًا «لوبيانو»، المدينة النموذجيّة في إيطاليا، وبيت كيارا لوبيك وقبرها. ولكن، منذ أربع سنوات أُصيبَ زوجي بمرضٍ خبيث، تُوُفّيَ على أثره. وبِرَحيلِهِ إنْهارَ كلّ شيءٍ من حولي… لم يَعْرفْ قلبي الفرحَ منذ ذلك اليوم. ولم أعُدْ أَدْخلُ الكنيسةَ إلاّ لإداء واجبٍ إجتماعيّ. حتّى أنّي صرتُ أتجنّب القدّاس وأكتفي بالصلاة في بيتي على التلفزيون وأنا أبكي وأبكي… فكيف لي أن أقولَ لربّي «لتكنْ مَشيئَتُكَ» وأنا رافضةٌ لِمَشيئَتِه، أُعاتِبُهُ على حِرْماني من زوجي الذي كان مَجْبولاً بِحُبِّ يسوع؟ هو الذي أَحَبَّ بالقول والفِعْل، أحَبَّ أولادنا وأهلنا وتلاميذه بكلّ فرح، وكان مثالاً لأكثر من ثلاث مئة طفلٍ تَرَبّوا على أيدينا في مركز رعاية الأيتام. ظلّ يشعُّ محبّةً ليسوع حتّى آخر يومٍ من حياته على الرغم من مرضه وأوجاعه… كيف يحرمُني اللّهُ منه؟
منذ فترة، دُعيتُ إلى مؤتمرٍ سَيُعْقَدُ في مركز عمل مريم في روما، ومن ثمّ إلى زيارة «لوبيانو» وكلّ الأماكن التي لطالما حلمنا بها أنا وشربل! كيف أقوم بهذه الرحلة لوحدي الآن؟ تردّدتُ كثيرًا وفي النهاية قبلتُ الدعوة.
وكان اللقاءُ مع المجموعة المسافرة وجوُّ المحبّة يغمرُنا جميعًا، يجمعُنا عيشُ المِثال نفسه. ولكن، في داخلي كان الفراغُ كبيرًا. في اليوم الأوّل من رحلتنا ذهبنا إلى لقاء الأربعاء مع البابا فرنسيس في ساحة القدّيس بطرس، ولِحُسْنِ حظّي، عندما مرّ لِيُباركَ الحُجّاج توقّف أمامي ونظر في عينيّ وباركني. في تلك اللحظة طلبتُ من اللّه من كلّ قلبي أن يزيلَ الهالة السوداء المحيطة بي. وفي اليوم التالي حصلت المعجزة: لَفَتَني الكلامُ عن الروح القدس وعملُهُ فينا، وفهمتُ أنّه لا يكون إلاّ مع الآب والإبن، إنّه الرابط بينهما، إنّه العلاقة التي تجمعهما، فهو إذًا موجودٌ أيضًا في القربان المقدّس… كيف لي إذا أن أحصُلَ عليه وعلى نِعَمِهِ إنْ لم أتناوَلْهُ في القربان المقدّس؟ وإنْ لم أذهب إلى القدّاس؟
أدركتُ عندها أنّني قاصَصْتُ نفسي وحَرَمْتُها نعمة الروح القدس ونعمة الفرح على مدى السنوات الأربع الأخيرة، ظنًّا منّي أنّني «أُقاصِصُ» ربّي، إذا صَحَّ القول!
أمّا الآن، تراني أهرعُ فَرِحَةً إلى القدّاس، وفي كلّ مرّةٍ أنالُ نعمةَ الفرح وحُبَّ الحياة من جديد.
ناديا عاصي
«تحملين الفرح»
كُنتُ أعتقدُ أنّ طَبْعي المَرِح وحيويّتي هما أمرٌ جيّدٌ بالنسبة إليّ وإلى الآخرين. لم أفهم كيف يُمكن أن ينزعِجَ البعضُ من تصرّفي، أنا التي كنت أحاولُ أن أهتمَّ بالآخرين وحسب، أُحَضّرُ لهم نشاطاتٍ مسليّةٍ وأملأُ وقت فراغهم إلخ… لكنّ روحانيّة الوحدة التي أعيشها جعلتني أدركُ أنّني على الرغم من حُبّي للحياة وطبيعتي المرحة والمُحبّة، أنا لا أحبّ الناس كما يريدون أن يُحَبّوا! فَتَنَقَّتْ محبّتي وتعلّمتُ كيف أحبّ الآخر بتجرّد.
مرَّت السنوات وأصبح لديّ رصيدٌ من الخُبرات الإيجابيّة والسلبيّة وكبرتُ في المحبّة.
ففي مجال العمل مثلاًً، إكتشفتُ أنّ أفضلَ طريقةٍ لمحبّة زملائي هي أن «لا أكون»! يا له من تناقض! لكن في الواقع عندما «لا أكون»، أسمحُ للآخر أن «يكون»، وبالتالي أكتشفُهُ وأستطيعُ أن أحبَّهُ كما هو بحاجةٍ أن يُحَبّ.
بدأتُ مؤخّرًا عملاًً جديدًا. منذ اليوم الأوّل لاحظتُ أنّ العلاقات بين الموظّفين متوتّرةٌ وأنّ لا تواصُلَ بينهم. رحتُ أفكّر عمّا يمكن أن أفعلَهُ تجاه ذلك. وعندما طُلِبَ منّي أن أقدّمَ مشروع دورةٍ تدريبيّةٍ للفرع الذي أعمل فيه، قلتُ في نفسي: «يا لها من فرصة»! وقرّرتُ أن أضعَ، في تصميم هذا المشروع، الكثيرَ من المحبّة، وعددًا من النشاطات والعديد من الألوان. وهكذا كان. على سبيل المثال وضعتُ بالونًا بشكل قلبٍ في واجهة الصالة، تحت الشاشة الكبيرة، وأضفتُ كلماتِ تقديرٍ لفريق العمل. وفي آخر الدورة، وزّعتُ بالوناتٍ مُلَوَّنةٍ طُبعَ عليها ابتسامةٌ واسعة، ورُبطَتْ بها قطعةُ شوكولاته. قد يبدو ذلك ساذجًا، لكنّه قرّبَ الأشخاص من بعضهم وخَلقَ جوًّا من الصداقة، كما أضفى فرحًا على الأسبوع التالي بكامله!
ومنذ ذلك الوقت تقرّب منّي عددٌ من الزملاء، بخاصّةًٍ المًُحْبَطين منهم أو الذين بحاجةٍ لتجديد طاقتهم. وكنتُ أرسلُ لهم أحيانًا على الهاتف الخليويّ أغنيةً كلّها حياة، وكلّها ومرح، بخاصّةٍ في فترة بعد الظهر عندما يتراكمُ تَعَبُ النهار …
ذات يوم، كنت أعملُ مع أحد الزملاء وكان التواصلُ معه صعبًا. في آخر النقاش عَلَتْ نبرةُ صوتي بطريقةٍ لم أُرِدْها، فانزعجتُ جدًّا من ذلك. بعد لحظات، ذهبتُ إلى مكتبه لأعتذرَ فلم أَجِدْه. بحثتُ عنه بإصرارٍ وقلتُ له بصراحةٍ وهدوء، إنّني لم أكن أنوي أن أفقدَ السيطرةَ على ذاتي، واعتذرتُ منه، فاعتذرَ بدوره.
تجدّد ذلك الموقفُ ثانيةً! نعم، ليس سهلاًً التواصُلُ مع الأشخاص المختلفين عنّا! إنّما في هذه المرّة أتى هو في اليوم التالي لِيَعْتَذِر، وبهذا ساعدني على «البدء من جديد».
يعملُ معنا أيضًا شخصٌ يَتَجَنَّبُهُ الجميع لأنّه جافٌّ وفظٌّ أحيانًا. ذات مرّة، رسمتُ ابتسامةً كبيرةً على ورقةٍ وعَلَّقتُها على حاسوبه. عندما عادَ إلى مكتبه قال: «ما هذا؟ من وضعَ هذا هنا؟» رفعتُ إصبعي بنوعٍ من الخجل، ولكن مع ابتسامةٍ عريضة، خائفةً من ردّة فِعْلِه. فقال: «أنتِ، يجبُ أن تعملي معنا في هذا المكتب، لأنّك تحملين الفرح حيثُ تكونين!».
أحصدُ الآن كلَّ التقدير الذي يُعبّرُ عنه الزملاءُ والمُدَراءُ بصراحة. أستطيع القولَ إنّ اللّهَ يُعطيني أكثر من المئة ضعف مقابل أعمالِ محبّةٍ بسيطةٍ كهذه .
يوانّا نجّار