حوار سلامٍ وطمأنينة
كلّما ركّزتُ عدستي لإلتقاط صورةٍ لهما، تراهما يتبادلان الحديث بجدّيّةٍ وعفويّةٍ وإصغاءٍ عميقٍ متبادل، وابتسامةٌ صادقةٌ تعلو وَجْهَيْهِما. كانا من أجمل ما شهدتُ في لقاء اليوم لأنّهما، وبكلّ بساطة، جعلا من هذا اللقاء شهادةً حيّةً لِعَيْشِ التقدير والإحترام المتبادَلَيْن!
هو لقاءٌ إستعدّ له كلٌّ من المنظّمة العالميّة لخرّيجي الأزهر والرهبان الفرنسيسكان في مصر، بمناسبة إحتفال الآباء الفرنسيسكان بمرور ٨٠٠ عام على لقاء القدّيس فرنسيس بالسلطان الملك الكامل الأيّوبي عام ١٢١٩م. في مدينة دمياط. في حينه، سمح السلطان لفرنسيس بأن يقيمَ رهبانه في مصر ويزوروا الأراضي المقدّسة التي كانت تحت سلطته. واليوم أراد سفراء الأزهر ورهبان الفرنسيسكان إعطاءَ العالم شهادةَ محبّةٍ ووئامٍ جديدة. وأتى هذا اللقاء بعد توقيع وثيقة الأخوّة الإنسانيّة بين قداسة بابا الفاتيكان وسماحة شيخ الأزهر. فكان لقاءٌ شارك فيه أكثر من ألف شخص، وذلك يوم السبت ٢ مارس ٢٠١٩ في صالة المؤتمرات التابعة للأزهر في مدينة مصر. في باكورة هذه اللقاءات المشتركة، أكدّ المتحدّثون كما الحاضرون على أنّ أبناءَ مصر يريدون أن يجتمعوا ويتعاونوا ويكونوا معًا أدوات سلام، “فالآذان صافية والقلوب واعية”.
وقد أكّد فضيلة الشيخ صالح عبّاس وكيل الأزهر على الصداقة بين عقلاء جميع الأديان وحكمائها، كما أكدّ بأنّ وثيقة الأخوّة الإنسانيّة بين قطبَيْ الإسلاميّة والمسيحيّة تدعو للتعايش السلميّ، وتلك حال هذا اللقاء والعديد من المؤتمرات، كلّها تريد أن ترعى حقوق الإنسان، وهذا واجب العلماء في كلّ زمانٍ ومكان.
أمّا الرئيس العامّ للرهبنة الفرنسيسكانيّة، الأب مايكل بري، فنوّه بالوثيقة وقال إنّ على أتباع الديانَتَيْن أن يتّحدوا ويتقاربوا من بعضهم البعض كالإخوة، فيوحّدوا قواهم ويعملوا معًا لبناء ثقافة الأخوّة ونشرها. وأضاف: “في ظلّ العطيّة الإلهيّة دعوتُنا هي أن نسيرَ بتواضعٍ أمام الله وأمام البشر معترفين بكرامة كلّ إنسان”. إنّ الرسالة التي تدعو إلى نشر الأخوّة، قيمُها السلام والطيبة والعيش المشترك. هذا هو النهج الذي دعا الجميع لإتّخاذه، متّخذين الله محورًا لكلّ شيء، ملبّين نداء البشر في رغبتهم بالسلام والأمان.
وحين تحدّث الدكتور يوسف عامر، نائب رئيس جامعة الأزهر، عن المسلمين وعلاقتهم بالآخر، ركّز على حرص الإسلام على ترسيخ المبادىء الداعية لإعمار الأرض على أساس التعاون والتسامح مع جميع البشر، منها الحرص على مكارم الأخلاق مع الناس كافّة وعدم الظلم، فالله قد حرّم الظلم بين العباد وحتّى مع الظالم نفسه. وطالب الدكتور عامر بعدم الإعتداء على الآخَر، بل عيش البرّ الذي هو أسمى درجات الحياة. ثمّ ذكّر بعدم التمييز وبمبدأ التعايش وحريّة الإعتقاد، “لكم دينكم ولي ديني”. وأضاف قائلاً إنّ النوايا الحسنة متوفّرةٌ في سبيل بناء سلامٍ يعمُّ العالم، ولن يتمَّ هذا السلام إلاّ من خلال التوحُّد والإحترام المتبادل، والعيش كأسرةٍ واحدةٍ تبغي إيراثَ أولادها إرثًا خاليًا من أيّة عداوةٍ وبغضاء. إنّ السلامَ خيارٌ حتميّ، فلنعمل من أجله، والله خلق البشر متساوين بالحقوق والواجبات لينشروا قيم المحبّة والسلام في الخليقة. فالمسلم مطالَبٌ بالسلوك الحسن مع دائرة الجيران وزملاء العمل وعامّة الناس أيًّا كانت معتقداتهم، وهو مطالبٌ باحترام الجميع، فالخُلُق سلوك. أعطى الدكتور بعد ذلك بعض التوجيهات، كالقيام بعملٍ مشتركٍ يتمّ وفق برنامجٍ يُحدّدُ أوجُهَ التقارب، ويُعلي قيم التعارف المتبادَل، فالعِلمُ المعاصر يحتاج ليقظة ضميرٍ إنسانيّ، ولإرساء المبادىء العليا. دعا للعمل بالشعور بالمسؤوليّة وتعزيز دور الحوار والتفاهم لإحتواء الكثير من المشاكل الإقتصاديّة والبيئيّة وغيرها، كما طالب بتصحيح المفاهيم الخاطئة وبحماية كلّ دور العبادة، ونوّه بدور المرأة في التربية والعمل على تنشئة أجيالٍ تتعامل مع بعضها البعض، بحسب مبدأ الأخوّة، وتشكيل فريق عملٍ مُشتَرَكٍ لتنفيذ مقترحات هذا اللقاء.
وتَلَتْ مداخلة الدكتور عامر كلمة نائب رئيس جامعة الأزهر، الدكتور محمد أبو زيد الأمير، عرض فيها التجربة المصريّة في ترسيخ مفهوم المواطنة، لتؤكّدَ بأنّ حبَّ الإنسان لوطنه أمرٌ فطريّ، ولتحوّلَ الإطار النظريّ إلى تجسيدٍ واقعيّ: فإنّ وسائلَ التواصل قد نقلت وَضْعَ حجر الأساس من قِبَلِ رئيس الجمهوريّة لبناء مسجد “الفتّاح العليم” جنبًا إلى جنب مع كاتدرائيّة “ميلاد المسيح” في العاصمة الإداريّة، وقد تمّ افتتاحهما منذ أيّامٍ قليلة تحت سمع العالم وأمام بصره. بهذا تكون مصر النموذج الأعلى في تحقيق المواطنة. مصرٌ هي نسيجٌ واحدٌ حيث لا فرق بين مسيحيٍّ ومسلمٍ. كما تحدّث عن العمل يدًا بيد بين الأزهر والكنيسة، ففي كلّ مناسبةٍ وطنيّةٍ تجدُ شيخ الأزهر وبجواره البابا تواضروس، وتراهما يتبادلان التهاني في جميع المناسبات وهذا ما يعكسُ عمقَ الروابط بين شركاء الوطن.
نعم، إنّ التعايشَ السلميّ ضرورةٌ و”لا إكراه في الدّين”، فَلِلْآخر، أيًّا كان، مكانةٌ عظيمة، لا لدينه مسلمًا كان أو مسيحيًّا أو…بل لأنّه إنسانٌ وله كرامته. فالسلامُ ليس نظريّاتٍ جوفاء، إنّما واقعٌ يتجسّد ويتبلور. هذا شيءٌ ممّا ورد على لسان الدكتور محيي الدين عفيفي، أمين عامّ مجمع البحوث الإسلاميّة، الذي تحدّث عن ثقافة السلام في الإسلام.
لكنّي أودّ أن أختمَ بما قاله مقدّم البرنامج واصفًا اللقاء بأنّه لحظاتٌ من زمنٍ غير اعتياديّ وقال “الشيخ والقسّيس قسّيسان وإن شئتَ فهما شيخان”.
لقد رُسِّخت في أذهان الحاضرين مفاهيم وقيم تحثُّ كلَّ واحد على القيام بواجبه. ماذا أعني؟ أعني أنّه يكفي أن أجدَ في كلّ من ألتقي به وجهَ الإنسان الذي خُلقَ محبّةً مثلي، وجه الإنسان الذي يُشبهني لا بشكله الخارجيّ وحسب، بل بقلبه الذي يريد العيش بطمأنينةٍ وفرحٍ وسلام! جوُّ التعارف ساعد على ترسيخ النوايا الطيّبة، فبذلك لا نُلغي الأحكام المسبقة وحسب، بل نبني صداقاتٍ أساسُها النوايا الحسنة والسعي لإرساء معالم الخير.
“ما أحلى أن نجتمع معًا، بالحبّ يقول الربُّ لنا”… وكيف نجتمع معًا؟ من خلال حياتنا اليوميّة، بأن نعيشَ كلَّ يومٍ باحثين في دياناتنا وعاداتنا اليوميّة عن الأمور المُشتركة، مُغْتَنينَ من خبرة الآخر وعاداته، فنكبُرَ معًا.
هدفنا إذًا أن نبحثَ عمّا يجمعُ وليس عمّا يُفرّق. أتتِ الساعة لنشبُكَ الأيدي وننتقِلَ إلى ضفّة السلام لبناء ثقافة السلام وحضارة المحبّة. وهذا ليس بحلم!
هو لقاءٌ إستعدّ له كلٌّ من المنظّمة العالميّة لخرّيجي الأزهر والرهبان الفرنسيسكان في مصر، بمناسبة إحتفال الآباء الفرنسيسكان بمرور ٨٠٠ عام على لقاء القدّيس فرنسيس بالسلطان الملك الكامل الأيّوبي عام ١٢١٩م. في مدينة دمياط. في حينه، سمح السلطان لفرنسيس بأن يقيمَ رهبانه في مصر ويزوروا الأراضي المقدّسة التي كانت تحت سلطته. واليوم أراد سفراء الأزهر ورهبان الفرنسيسكان إعطاءَ العالم شهادةَ محبّةٍ ووئامٍ جديدة. وأتى هذا اللقاء بعد توقيع وثيقة الأخوّة الإنسانيّة بين قداسة بابا الفاتيكان وسماحة شيخ الأزهر. فكان لقاءٌ شارك فيه أكثر من ألف شخص، وذلك يوم السبت ٢ مارس ٢٠١٩ في صالة المؤتمرات التابعة للأزهر في مدينة مصر. في باكورة هذه اللقاءات المشتركة، أكدّ المتحدّثون كما الحاضرون على أنّ أبناءَ مصر يريدون أن يجتمعوا ويتعاونوا ويكونوا معًا أدوات سلام، “فالآذان صافية والقلوب واعية”.
وقد أكّد فضيلة الشيخ صالح عبّاس وكيل الأزهر على الصداقة بين عقلاء جميع الأديان وحكمائها، كما أكدّ بأنّ وثيقة الأخوّة الإنسانيّة بين قطبَيْ الإسلاميّة والمسيحيّة تدعو للتعايش السلميّ، وتلك حال هذا اللقاء والعديد من المؤتمرات، كلّها تريد أن ترعى حقوق الإنسان، وهذا واجب العلماء في كلّ زمانٍ ومكان.
أمّا الرئيس العامّ للرهبنة الفرنسيسكانيّة، الأب مايكل بري، فنوّه بالوثيقة وقال إنّ على أتباع الديانَتَيْن أن يتّحدوا ويتقاربوا من بعضهم البعض كالإخوة، فيوحّدوا قواهم ويعملوا معًا لبناء ثقافة الأخوّة ونشرها. وأضاف: “في ظلّ العطيّة الإلهيّة دعوتُنا هي أن نسيرَ بتواضعٍ أمام الله وأمام البشر معترفين بكرامة كلّ إنسان”. إنّ الرسالة التي تدعو إلى نشر الأخوّة، قيمُها السلام والطيبة والعيش المشترك. هذا هو النهج الذي دعا الجميع لإتّخاذه، متّخذين الله محورًا لكلّ شيء، ملبّين نداء البشر في رغبتهم بالسلام والأمان.
وحين تحدّث الدكتور يوسف عامر، نائب رئيس جامعة الأزهر، عن المسلمين وعلاقتهم بالآخر، ركّز على حرص الإسلام على ترسيخ المبادىء الداعية لإعمار الأرض على أساس التعاون والتسامح مع جميع البشر، منها الحرص على مكارم الأخلاق مع الناس كافّة وعدم الظلم، فالله قد حرّم الظلم بين العباد وحتّى مع الظالم نفسه. وطالب الدكتور عامر بعدم الإعتداء على الآخَر، بل عيش البرّ الذي هو أسمى درجات الحياة. ثمّ ذكّر بعدم التمييز وبمبدأ التعايش وحريّة الإعتقاد، “لكم دينكم ولي ديني”. وأضاف قائلاً إنّ النوايا الحسنة متوفّرةٌ في سبيل بناء سلامٍ يعمُّ العالم، ولن يتمَّ هذا السلام إلاّ من خلال التوحُّد والإحترام المتبادل، والعيش كأسرةٍ واحدةٍ تبغي إيراثَ أولادها إرثًا خاليًا من أيّة عداوةٍ وبغضاء. إنّ السلامَ خيارٌ حتميّ، فلنعمل من أجله، والله خلق البشر متساوين بالحقوق والواجبات لينشروا قيم المحبّة والسلام في الخليقة. فالمسلم مطالَبٌ بالسلوك الحسن مع دائرة الجيران وزملاء العمل وعامّة الناس أيًّا كانت معتقداتهم، وهو مطالبٌ باحترام الجميع، فالخُلُق سلوك. أعطى الدكتور بعد ذلك بعض التوجيهات، كالقيام بعملٍ مشتركٍ يتمّ وفق برنامجٍ يُحدّدُ أوجُهَ التقارب، ويُعلي قيم التعارف المتبادَل، فالعِلمُ المعاصر يحتاج ليقظة ضميرٍ إنسانيّ، ولإرساء المبادىء العليا. دعا للعمل بالشعور بالمسؤوليّة وتعزيز دور الحوار والتفاهم لإحتواء الكثير من المشاكل الإقتصاديّة والبيئيّة وغيرها، كما طالب بتصحيح المفاهيم الخاطئة وبحماية كلّ دور العبادة، ونوّه بدور المرأة في التربية والعمل على تنشئة أجيالٍ تتعامل مع بعضها البعض، بحسب مبدأ الأخوّة، وتشكيل فريق عملٍ مُشتَرَكٍ لتنفيذ مقترحات هذا اللقاء.
وتَلَتْ مداخلة الدكتور عامر كلمة نائب رئيس جامعة الأزهر، الدكتور محمد أبو زيد الأمير، عرض فيها التجربة المصريّة في ترسيخ مفهوم المواطنة، لتؤكّدَ بأنّ حبَّ الإنسان لوطنه أمرٌ فطريّ، ولتحوّلَ الإطار النظريّ إلى تجسيدٍ واقعيّ: فإنّ وسائلَ التواصل قد نقلت وَضْعَ حجر الأساس من قِبَلِ رئيس الجمهوريّة لبناء مسجد “الفتّاح العليم” جنبًا إلى جنب مع كاتدرائيّة “ميلاد المسيح” في العاصمة الإداريّة، وقد تمّ افتتاحهما منذ أيّامٍ قليلة تحت سمع العالم وأمام بصره. بهذا تكون مصر النموذج الأعلى في تحقيق المواطنة. مصرٌ هي نسيجٌ واحدٌ حيث لا فرق بين مسيحيٍّ ومسلمٍ. كما تحدّث عن العمل يدًا بيد بين الأزهر والكنيسة، ففي كلّ مناسبةٍ وطنيّةٍ تجدُ شيخ الأزهر وبجواره البابا تواضروس، وتراهما يتبادلان التهاني في جميع المناسبات وهذا ما يعكسُ عمقَ الروابط بين شركاء الوطن.
نعم، إنّ التعايشَ السلميّ ضرورةٌ و”لا إكراه في الدّين”، فَلِلْآخر، أيًّا كان، مكانةٌ عظيمة، لا لدينه مسلمًا كان أو مسيحيًّا أو…بل لأنّه إنسانٌ وله كرامته. فالسلامُ ليس نظريّاتٍ جوفاء، إنّما واقعٌ يتجسّد ويتبلور. هذا شيءٌ ممّا ورد على لسان الدكتور محيي الدين عفيفي، أمين عامّ مجمع البحوث الإسلاميّة، الذي تحدّث عن ثقافة السلام في الإسلام.
لكنّي أودّ أن أختمَ بما قاله مقدّم البرنامج واصفًا اللقاء بأنّه لحظاتٌ من زمنٍ غير اعتياديّ وقال “الشيخ والقسّيس قسّيسان وإن شئتَ فهما شيخان”.
لقد رُسِّخت في أذهان الحاضرين مفاهيم وقيم تحثُّ كلَّ واحد على القيام بواجبه. ماذا أعني؟ أعني أنّه يكفي أن أجدَ في كلّ من ألتقي به وجهَ الإنسان الذي خُلقَ محبّةً مثلي، وجه الإنسان الذي يُشبهني لا بشكله الخارجيّ وحسب، بل بقلبه الذي يريد العيش بطمأنينةٍ وفرحٍ وسلام! جوُّ التعارف ساعد على ترسيخ النوايا الطيّبة، فبذلك لا نُلغي الأحكام المسبقة وحسب، بل نبني صداقاتٍ أساسُها النوايا الحسنة والسعي لإرساء معالم الخير.
“ما أحلى أن نجتمع معًا، بالحبّ يقول الربُّ لنا”… وكيف نجتمع معًا؟ من خلال حياتنا اليوميّة، بأن نعيشَ كلَّ يومٍ باحثين في دياناتنا وعاداتنا اليوميّة عن الأمور المُشتركة، مُغْتَنينَ من خبرة الآخر وعاداته، فنكبُرَ معًا.
هدفنا إذًا أن نبحثَ عمّا يجمعُ وليس عمّا يُفرّق. أتتِ الساعة لنشبُكَ الأيدي وننتقِلَ إلى ضفّة السلام لبناء ثقافة السلام وحضارة المحبّة. وهذا ليس بحلم!
ريما السيقلي