حقيقة ما نعيش
كلُّ بلدٍ من بلدان الشرق الأوسط جوهرةٌ في ثقافته وعاداته وهويّته. غير أنّ لكلّ بلدٍ في هذه المنطقة معاناته، يعيش من خلالها أزمةً أم مشكلةً ما.
أمّا لبنان فيُعاني ويُعاني… ويبدو أنّ معاناته لا تنتهي وكأنّ الزمن اختارَه مأساةً يُعانيها وأمثولةَ حياٍة يُعطيها. حربٌ لسنينَ طويلة، انفجاراتٌ شبه “نوويّة”، تهويلٌ وذعر. واليوم، حربٌ إقتصاديّةٌ خانقة، تشدُّ بيَديْها على أعناق اللبنانيّين لتنتزعَ أرواحَهم وتقضيَ عليهم… لكنّي أؤكّدُ لكِ أيّتها الحرب الضارية الجشعة أنّه لن تكونَ لكِ الكلمة الأخيرة علينا، وبالدلائل سأخبرُكِ لماذا! نعم، عانيتُ منكِ الويلات منذ أن فتحتُ عيناي على هذه الدنيا. وآخر ما عانيتُهُ حديثُ العهد: فقد أدمى قلبي عرقُ جبين اللبنانيّين يتصبَّبُ في الشمس الحارقة ولساعاتٍ، أمام محطّات الوقود، نعم عانيْتُ الطوابير، وعانيْتُ صرخاتٍ تقطعُ الأنفاسَ لعدم وجود دواء، وعانيتُ قطعَ الكهرباء والعيشَ في العتمة الحالكة. اللائحة طويلة، وشرورُكِ تبعثُ بإنذارتٍ جديدة، تتحدّانا بازدياد الأعباء المعيشيّة وعدم توفّر الرعاية الصحيّة وحَبْسِ الهواء عن روايانا، تتحدّينَنا بعَبَثِيّتِكِ الزائلة… لكنّكِ نَسَيْتِ، نَسيْتِ أنّ شعبَ الحياة وُلِدَ من أرض الإيمان؛ محفورةٌ في الصخور معابدُه ومُطلّةٌ من على قِمم الجبالِ هياكِلُه. نسيْتِ أنّ أرضنا أمانةٌ استودعتها السماء ونطقت بها جمالاً وحبًّا وثقافة.
وصلتُ إلى مزار سيّدة لبنان في حريصا، فاغرَوْرَقتْ عيناي بالدمع أمام مشهد الإيمان الذي يفوحُ من قلوب الحاضرين، مع كاهنٍ عجوزٍ يندهُ علينا لنلتفَّ حوله، فيرفع يده حاملاً أغصان الزيتون مُباركًا شعبه.
بكيتُ أمام شمعة أملٍ ورائحة بخور، أمام خشوع أناسٍ فاح من تَقواهُم عطرُ إكليل الجبل والقصعين والزعتر والورد الجوريّ… ومن منارةٍ روحيّةٍ إلى السوق التجاريّة بقيَ تأثُّري هو هو. دخلتُ إلى السوبرماركت أسأل: “في تين بيّاضي معلّم فؤاد؟”، أجابني “هلّق ما في، لعيد السيّدة”. وقفتُ مشدوهةً وصامتةً لثوانٍ وصدى كلماتِهِ البسيطة والعفويّة تتردَّدُ في داخلي حتّى اللحظة، كأنّه تلا صلاةً عبقَ طيبُها في أرجاء نفسي، فتَزيّنَتْ روحي بجمالِها. حتّى الفاكهة والخضار مرتبطةٌ بجذور إيماننا.
هل أدركتِ الآن ما قلتُه بأنّ ليس لكِ الكلمة الأخيرة؟ كنتُ في العتمة القسريّة التي فرضتِها عليّ، لكنّي كنت أسبحُ في النور، فمن عتمة الظلام يخرج النور ومن الموت تولدُ الحياة!
ولا بدَّ لي هنا أن أذكر بعض ما قاله الأسقف أنطوان بو نجم في إحدى عظاته: “إنّ الموتَ في المسيحيّة هو بدايةُ الحياة. ٱلامُ المسيح والصليب ليسا سوى طريقٍ للقيامة والإنتصار. كَلَّمَنا المسيح مرارًا عن ضرورة معرفة كيف نموت لنُعطيَ الحياة، موضحًا بالأمثال: مَثل حبّة الخردل التي عليها أن تموت وتُدفَن كي تنموَ وتكبر، ومَثل الخمير الذي يجبُ أن يذوبَ ليُعطيَ الخبز. من دون الموت ليس هناك خلقٌ ولا تجدُّدٌ ولا اكتمال. علينا أن نُقاوم. يجب أن يبقى لبنانُنا وتبقى رسالتُه المسيحيّة تُشعّ. لبنانُ ليس قطعةَ أرض. لبنان هو نحن، رجالٌ ونساءٌ تحمّلوا قُرونًا من الصعوبات وعرفوا دائمًا كيف يتخطّونها، فوجودنا هنا رسالةً وواجب”.
 
إسمحي لي أيّتها الحرب ألّا أكتفيَ بهذه الكلمات القويّة الثائرة بالحبّ الحقيقيّ وأنتقلَ إلى شهادةٍ حياتيّةٍ يوميّة، شهادة شنتال، وهي أمٌّ لبنانيّةٌ تعيشُ كالجميع هذا الواقع المرير، لكنّها تصنعُ فرقًا بشهادتِها وشفافيّتها وتقول: “مثلي مِثل كلّ الناس، نحن نعيشُ أصعبَ فتراتِ حياتِنا. البارحة ضاقت بيَ الحياة وأقفلت بوجهي أبوابها، ولكن، وبشكلٍ فُجائيّ، وعلى غفلةٍ منّي، أتت ابنتي وحَضَنَتني لمدّة ثلاث دقائق، وهي نادرًا ما تقوم بذلك، ويا لهذه الفرحة. لاحظتُ بعدها أنّ دواءَ الحساسيّة الذي أتناولُهُ قد نفذ، ولا يوجدُ في الصيدليّات، فتوجّهتُ لِمن حولي أُعْلمُهم بذلك. وصلني ردٌّ فوريٌّ من أكثر من عشرين شخصًا يعرضون عليّ المساعدة، ومن بينهم صديقة، عَرضَتْ عليّ أن نتقاسَمَ في ما بيننا الدواء الذي كان لديها. لم ينتَهِ يومي على ذلك، رحتُ لاحقًا لأشتريَ شنطةً لإبني، ففاجأني صاحبُ المتجر إذ قال: “خُذي لإبنك صورةَ مار شربل هذه لتُرافِقَهُ في مُخيَّمه الصيفيّ”. من المحتمل أن تبدوَ هذه الأمور التي أُخبركُم بها سخيفة، لكنّها بالنسبة لي علامات… علاماتٌ تدلُّ أنّه لا زال هناك أناسٌ مُحِبّة وصاحبةُ قلبٍ كبير، تذكّرُنا بأنّ الدنيا لا زالت بألف خير، وأنّ هناك أخوةً وأصدقاءَ موجودين لإزاحة الضيقِ والهمِّ عن قلبك، الله موجود، ومار شربل موجود. فلا تَقُلْ إنّ هذه أمورٌ سخيفة، إنّما هي عميقةٌ فحاوِلْ معي أن تُعاينَ مدى غورِها وفعاليَّتِها”. ثمّ تُضيف: “أمّا اليوم فسوف أبدأُ نهاري بعبارةٍ علّمني إيّاها أبي ويُردِّدُها لي: “أعطِنا خبزَنا كفاف يومنا”، لذا أقول لن نموتَ جوعًا، فكلُّ يومٍ يقومُ بوجباتِهِ كما يأتي بهُمومِه. تكفيني اللحظة. لا أريدُ أن أقلقَ بسبب الغد، من يدري ما الذي يحملُهُ هذا الغد؟”.
 
معكِ صديقتي ومع أمثالك لن ندعَ جرعاتِ القلق تُسمّمُ لحظاتِ عَيْشنا وحياتنا، فالحياة هبةُ الله ولا أحد ينتزعُها منّا. نُعاني الأرقَ ونتمزّق إرَبًا إزاء رحيل أبنائنا وهجرة بعض عائلاتنا، هذه الهجرة التي جعلت اللبنانيّين يملؤون الأرض، فتجدهم يُبدعون في الخارج بعبقريّتهم ويساعدون أبناءَ وطنِهم مُرسلين الأدوية والمال وغيرها من الأمور الضروريّة. هذا الشعبُ يخرجُ بحضارتِه لتعيشَ هذه الحضارة في أقطارٍ عدّة، وتُشعَّ الثقافةُ اللبنانيّة حيثما كان اللبنانيّون، فتراهم يزيّنون بالقِيَم والعاداتِ الجميلة الأرض التي تطأُها أقدامُهم.

هذا ما لمستُهُ خلال سفرتي إلى اسطنبول مؤخّرًا حين التقيتُ بسليمان، أحد مؤسِّسي مطعم “Tahin” (أي الطحينه باللغة التركيّة): لقد دُعيتُ إلى هذا المطعم المتواضع لوجبة غداء، واكتشفتُ أنّه الأوّل من سلسلة مطاعم. منذ أن وقعَ نظري على قائمة الطعام غرَّدَ قلبي لوجود قائمةٍ ب”المازه اللبنانيّة وعلى رأسِها الحمّص والمتبّلات على أنواعها، والتبولة والفتوش، والفلافل والفتّة والكبّة والسنبوسك والمشاوي والمدردرة الخ…، أكل لبناني ١٠٠%”. سألت سليمان عن بدايات هذا المكان فحدّثني قائلاً: “رأى هذا المكان النور بعد علاقةٍ بناها لبنانيٌّ مع صديقٍ له تركيّ، وهذه الصداقة توطّدت مع الأيّام وضمّت آخرين عرفوا بناءَ جسور التلاقي، فتوسّعت الدائرة وأثمرت… فكان “Tahin”. وتابع قائلاً: “نعرفُ تمامًا بأنّ مفهومَ الأكل في لبنان يتخطّى المعنى الحَرْفيّ للكلمة، فلِلْمائدة طعمٌ مُميّز، لها نكهةُ اللقاء والإلفة والمودّة ولَمِّ شَمْلِ العائلة، فحولُها يتبادلُ الأفرادُ الأفكارَ والأخبار، وهذه ميزةُ شرقنا الأوسطيّ. إلتقَيْنا إذًا، والتقَتْ الحضارتان فتعرَّفَ المواطنون على الثقافة اللبنانيّة والميزات الجميلة التي يتمتّع بها لبنان. نَجحتْ صداقتُنا، فنجَحْنا بتقدمة الوجبات اللبنانيّة التي عرفت كيف تأخُذُ بعينِ الإعتبار ذوقَ أهلِ البلد. نبغي أن يكبُرَ هذا الواقع ويتطوّر ليُصبحَ لقاءً أوسع، فيشمل عالم الموسيقى والتبادل الثقافيّ. هوذا تعبيري عن لبنانيّتي، وفيما كنت أستقبلُ ثقافة البلد الذي أعيشُ فيه كانت لبنانيّتي تتعزّز فيّ أكثر وأكثر”.
هكذا هو اللبنانيّ، مدعوٌّ دائمًا أن ينثرَ عطرَ ثقافته وعراقته حيثما وجد، وعندها ما من أحدٍ يستطيعُ أن يردعَ تدفُقَّ لبنانيَّتِهِ وصخبَ أمواجِها.

هذه الحقبةُ الزمنيّة التي نعيشُها معكَ لبنان هي حقبةٌ قاسيةٌ جدًّا والحِملُ يجعلُ الأكتافَ تنحني لوطأة الثقل، والعيونُ تدمعُ أسفًا… ولكنْ في كلّ دمعةٍ يلمعُ بريق… بريقُ أملٍ لا يقدرُ وهجُه أن يَخمُد، لأنّه بِرُزوحِنا تحت عبءِ الألم، نُحدّقُ بالأرض التي تمتدُّ تحت ناظرَيْنا لنلاحظَ أنّها لا زالت تُزهرُ والبذور تأتي بالثمر… فيَنتَفِضُ في حينه قلبُنا الممزّق ولا تنطفىءُ دقّاتُه… كيف لا، ونغمةٌ سماويّةٌ تُهدهدُ فيه نبضاتِ حُبٍّ ورجاءٍ تجعلهُ يقول: “إنّ للحُبِّ والرجاء فيّ الكلمة الأخيرة، هكذا أعيش ويعيشُ فيّ لبناني”.

ريما السيقلي

 

Spread the love