جوابُنا على الليل الجماعيّ والثقافيّ اليوم
عندما كان البابا بندكتُس السادس عشر كاردينالاً وَصَفَ عالمَ اليوم قائلاً: “كم من رياحٍ عقائديّةٍ عرفناها في السنوات الأخيرة من عصرنا، من المارْكْسِيّة إلى الليبراليّة، إلى التحرّريّة من القيود الأخلاقيّة، ومن الجماعة إلى الفرديّة الراديكاليّة، ومن الإلحاد إلى التصوّف الدينيّ الغامض إلخ…، إلى المذهب النسبيّ الذي يدعونا لنترُكَ ذواتنا تنقاد “هنا وهناك من قِبَلِ أيّ ريحٍ عقائديّة”، وهو مذهبٌ يظهرُ وكأنّه التصرّفُ المناسب للزمن المعاصر”.
ومن ناحيةٍ أخرى لم يتردَّدْ البابا يوحنّا بولس الثاني في المقارنة بين “ليل الروح” لدى يوحنّا ذي الصليب وظلماتِ عصرنا، التي هي بمثابة ليلٍ جماعيّ، إنقضّت أكثر فأكثر على البشريّة وبخاصّةٍ في الغرب. ولاحظ بقلقٍ كبير، كيف أنّ تأثيرَ القِيَمِ المسيحيّة أخذ يتراجع.
كما أنّ نموّ الإكتشافات العلميّة والتكنولوجيّة اليوم، نموًّا سريعًا ومن دون أيّة ضوابط، أخذ مَنْحًى لم تَعُدْ تستطيعُ فيه الأخلاق مواكَبَتَه، فانفتحَتْ هكذا هوّةٌ عميقةٌ بين المنطق والحكمة ، بين العقل والقلب، كما في واقع القنبلة الذرّيّة أو التلاعُب الوراثيّ الجينيّ، فباتَتِ البشريّةُ على وشك أن تفقدَ السيطرة على كلّ ذلك.
لذا تبقى حسرةُ عالمة الفلسفة، ماريّا زامْبْرَانُو، صرخةً حقيقيّةً ومؤلمةً إذ تقول: “نحن نعيش إحدى أحلكِ الليالي المظلمة التي لم نَعرفْ لها مثيلاً من قبل”.
هكذا هو العالم كما يظهر لنا اليوم.
لكنّ الروح، في هذا الزمن بالذات، كان سخيًّا، فغمر العائلة البشريّة بمواهبَ عديدةٍ وُلِدَتْ منها الحركات والتيّارات الروحيّة والجماعات الجديدة والمؤسّسات المختلفة.
من الواضح أنّنا نحتاجُ إلى أفكارٍ قويّة، إلى مثالٍ يفتح طريقًا لإعطاء الجواب على الأسئلة العديدة الموجِعَة والمُقْلِقة، ويظهرُ نورًا من المُمْكِنِ اتّباعَه، فنُرَدّد مع القدّيس لورَنْزُو: “ليلي لا ظلام فيه، بل إنّ كلَّ الأشياء تشعُّ في النور”.
في رسالته “إطلالةُ الألف الثالث” أعلن البابا يوحنّا بولس الثاني عن النجمة التي تُرْشِدُنا في مَسيرتِنا هذه، أي يسوع المصلوب والمتروك. فهو يقول: “لن ننتهيَ أبدًا من التنقيب والبحث في عمق هذا السرّ (…)، إلهي إلهي لماذا تركتني” (مرقس ۱٥،٣٤).
يقترحُ إذًا يوحنّا بولس الثاني على الكنيسة جمعاء يسوع المتروك، كذلك فَعَلَ قدّيسون قديمون ولاهوتيّون حديثون كما فعلت الفوكولاري التي ترتكزُ أساسيًّا وجوهريًّا على مفهوم يسوع المتروك. وهذا ما نودُّ أن نتأمَّلَ به اليوم، نتأمَّل بيسوع الذي صرخ بأعلى صوته: “إلهي إلهي لماذا تركتني ؟”.
إنّها آلامُهُ الداخليّة، إنّها ليلُهُ الأسود الحالك، إنّها قمّةُ آلامه، إنّها دراما إلهٍ يصرخ: “إلهي إلهي لماذا تركتني؟”. إنّه حقًّا لسرٌّ لامتناهٍ، وألمٌ عميقٌ اخْتَبَرَهُ يسوع كإنسان، يُعطينا مقياسَ محبَّتِهِ للبشر. لقد أراد أن يأخُذَ على عاتقه الإنقسام الذي أَبْعَدَ البشرَ عن الآب وعن بعضهم البعض، فيُزيلَهُ. إنّ آلامَ البشر وبخاصّةٍ تلك الروحيّة منها، تُلَخَّصُ كلُّها في ألم يسوع الخاصّ هذا. أليسَ شبيهًا به ألمُ الإنسان القَلِق والوحيد والغريب عن الله والخائب والفاشل والضعيف،…؟ أليس صورةً عنه كلُّ انقسامٍ بين الإخوة وبين الكنائس وبين جماعاتٍ بشريّةٍ تتجاذبُها إيديولوجيّاتٍ متناقضة؟ أليس صورةً عن يسوع الذي خسر إذا صحّ القول معنى الله، الذي صار “خطيئةً” من أجلنا كما يقول بولس، ذلك العالم المُلْحِد والمُعَلْمَن والساقط في كلّ أنواع الإنحرافات؟
حين نحبُّ يسوعَ المتروك نجدُ السببَ والقوّةَ كي لا نهربَ من هذه الشرور والإنقسامات، بل نقبلُها ونحوّلُها ونحملُ إليها علاجَنا الفرديّ والجماعيّ.
إذا استطعنا أن نلتقيَ به في كلّ ألم، إذا أَحْبَبْناه، ونحن نتوجّه نحو الآب كما فعل يسوع على الصليب: “بين يديكَ يا ربّ أستودعُ روحي” (لوقا ۲٣،٤٦) في حينه، يمرُّ الليل معه ويشرق علينا النور.
نعتقدُ أحيانًا أنّ الإنجيلَ يحملُ ملكوت السموات بالمعنى الدينيّ وحسب، ولا يحلُّ المشاكل البشريّة، لكنّ ذلك ليس صحيحًا. بالطبع ليس يسوعُ التاريخيّ أو يسوعُ رأس الجسد السرّيّ هو الذي يحلّ المشاكل، بل يقومُ بذلك من خلال يسوع الحاضر فينا نحن، يسوع الحاضر فيّ أنا، ويسوع الحاضر فيكَ أنت. إنّه يسوعُ في الإنسان، في إنسانٍ معيّنٍ تحلُّ فيه نعمَتُه، هو الذي يقومُ ببناء جسرٍ أو فتح طريق، يسوع هو الشخصيّة الحقيقيّة المطبوعة في كلّ واحدٍ منّا.
كلُّ إنسان، كلُّ مسيحيٍّ في الواقع هو ابنُ الله، وبالتالي يسوعُ آخر أكثر من كَوْنِهِ ابنَ أبيه البشريّ. وكونُهُ يسوعَ آخر، وعضوًا في جسده السرّيّ، كلُّ إنسانٍ يحملُ مساهَمَتَهُ المميّزة في المجالات كلّها؛ في العلوم، والفنّ، والسياسة، ووسائل الإتّصال وغيرها، وسوف تكون مساهَمَتُهُ فعّالةً أكثر إنْ هو عمل مع أناسٍ آخرين مُتّحدين بين بعضهم البعض باسم يسوع. إنّه التجسّدُ الذي يستمرّ، تجسّدٌ كامل، يتعلّقُ بأعضاء يسوع كلّهم المُنْتَمين إلى جسد المسيح السرّيّ.
 كيارا لوبيك
Spread the love