تربية من منظار جديد
كارمن سيدةٌ متزوّجةٌ رزقها الله بابنةٍ وحيدةٍ إسمها ندى، لكنّها ليست كغيرها من الأولاد الذين في مثل سنّها، إذ تميّزت تلك الفتاة بكثرة الحركة وشدّة الذكاء. كانت فتاةً إجتماعيّةً منذ صغرها، إنصبغت شخصيّتُها بالقوّة وعدم الخوف من مواجهة الآخرين، بحيث يمكنها أن تعبّرَ عن كلِّ ما يختلجُ في عقلها من أفكار، ولا تتأخّر في طرح التساؤلات عن الأمور التي تحدث من حولها.
بعد بلوغ ندى الثامنة من عمرها كانت أمّها تسمح لها بأن تنزلَ إلى الشارع وتلعبَ مع أولاد الجيران فتُراقبهُا من بعيد لتحمِيَها. ذات يومٍ وبينما كانت ندى تلعب في الخارج، علا صوتُ صراخ إحدى الجارات فهرعت كارمن مسرعةً تستفسرُ عن السبب، وإذا بتلك الجارة العتيدة تشدُّ ذراعَ ندى وهي تصرخ، كأنّها وحشٌ كاسرٌ ينقضّ على فريستِه.
ركضت الأمّ الخائفة لإنقاذ ابنتها وسألت جارتَها عن سبب ذلك الحادث، فبدأت تلك الجارة توبّخ كارمن على تربيتِها السيّئة لابنتِها، وطلبت منها أن تعلّمَها آداب التخاطب مع من هم أكبر سنًّا. بعد جهدٍ جهيد فهمت كارمن بأنّ الأولاد، وهم يلعبون، طارت الكرة الملطّخة بالوحل ولامَستْ غسيلَ الجارة القريب من الشارع، فهرعت المرأة توبّخ الأولاد وتتّهم ندى بذلك. لم تكن ندى المذنبة وراحت تدافع عن نفسها بكلّ جرأةٍ وثقة، ممّا أخرج الجارة عن وعيها فاعْتَبَرتْ بأنّ كلام ندى قلّة احترامٍ ووقاحة، وصبّت غضبها على الفتاة المسكينة.
بعد أن سمعت الأمّ تلك الرواية طمأنَتْ الجارة أنّها ستهتمُّ بتربية ابنتها جيّدًا، فاحتضنتْ الأمّ بنتَها وعادتا إلى المنزل. بعد أن هدأت الفتاة اقتربت الأمّ وجلست قربها تُحدّثها، وعبّرت لها كم هي فخورةٌ بها لأنّها لم تخطئ، ودافعت عن نفسها باحترام، وبأن هذا حقّ لها وليس عليها أن تتخلّى عن ذلك الحقّ في يومٍ من الأيّام.
كبرت الفتاة بأمانٍ بين أحضان عائلتها المتفهّمة ونجحت في دراستها حتّى أصبحت قائدةً لفريق عملها. كانت كارمن تؤمن بابنتها منذ كانت صغيرة، وبأنّها ستصبح قائدةً ولن تقبلَ بالأحلام الصغيرة في حياتها. لقد زرعت بها الثقة بالنفس واعتَنَتْ بشخصيّتها ودَعَمَتْها دون أن تسيطرَ عليها ودون أن تجعل منها نسخةً عن شخصيّتها.
هكذا هي التربية الناجحة، فإذا كنّا نريد أن نخلقَ جيلًا مبدعًا علينا أن نتخلّى عن فكرة مشابهة أولادنا لنا، ونتركَ لهم المجال ليَبنوا شخصيّتهم بحسب ميولهم، فهم ليسوا نحن ولا يجب أن يكونوا كذلك، بل أرواحُهم خُلقَتْ حرّةً كي يختاروا طريقهم، ونحن نسير درب الحياة معهم جنبًا إلى جنب دون أن نعصب أعينهم ونأخذهم إلى حيث نريد. نحن بحاجةٍ إلى التربية وليس إلى الإستنساخ، وليس علينا دائمًا إرضاء الآخرين على حساب تطلّعاتِنا وقناعاتِنا.
هلا قسطنطين
Spread the love