إلتقيت بشباب الفوكولاري عندما كان عمري حوالي ١٧ سنة. كنتُ قد التحقتُ للتوّ بكليّة الفلسفة في جامعة في مدريد، إسبانيا. كانت تلك السنوات الأخيرة من دكتاتوريّة الجنرال فرانكو، وأنا، مثل كثيرين آخرين، حلمتُ بمجتمعٍ مختلف.
كنت صبيًّا قد حصل على تنشئة كاثوليكيّة وعاش عمليّةً مكثّفةً من البحث الداخليّ. لقد جعلني هذا الموقف أكثر خجلاً وانطواءً. وإذا نظرتُ إلى تلك السنوات الآن، أرى فتًى يُتابع الصورة التي بناها عن نفسه، صبيًّا مع لمسةٍ من السذاجة والحزن، إنسانًا مثاليًّا يُقلقُ والدَيْه، هاذَيْن العامِلَيْن الكَبيريْن. أثناء طفولتي ومراهقتي، كان والداي يُديران محلَّ جزارة (ملحمة) ودكّانَ حلويات. أنا، في وقت فراغي من الدراسة، كنت أساعد والدي في محلّ الجزارة، ولكنْ عندما أخرج لأقومَ ببعض المهمّات، كنت أشعرُ بالخجل لإرتدائي مئزَرَ الجزّار الخاصّ، الأخضر الداكن مع خطوطٍ سوداء. كان هذا يُعذّبني. بالطبع، في ظلّ هذه الظروف، ما كنتُ لأغيّرَ العالم.
لقد كان تأثيرُ هؤلاء الشباب الذين يعيشون من أجل الوحدة قويًّا. إلتقيتُ بهم في اجتماعٍ سنويٍّ لحركة الفوكولاري. من وجوههم كان يَظهرُ الفرحُ والحرّيّة. هذا ما كنت أفْتَقِرُ إليه: ألحرّيّة الحقيقيّة. إلّا أنّني بعد يومين أردتُ الهروب. في الحقيقة، لم أتمكّن من أن أجدَ في نفسي تلك البهجة والحرّيّة التي رأيتها في وجوههم تلك. لفد أثّروا فيّ حتّى بالطريقة التي ظهروا بها، لقد كان شَعرُهم طويلًا ويعزفون على الغيتار الكهربائيّ، وهما أمران أحبّهما كثيرًا.
كنت أمام فجوة: إمّا أن أعْبُرَها أو أعودَ إلى الوراء إلى الأبد. باختصار، كنت مُنغَمِسًا في أزمةٍ عميقةٍ لم أكن أعرف كيف أخرج منها. حاول أحدُهم أن يُشجّعَني، ممّا زاد من حدّة الأزمة: “أنت على الطريق الصحيح”، قال لي. وكان بين الشباب الذين حضروا المؤتمر شخصٌ مشلولٌ يتحرّك في كرسيٍّ متحرّك. مُرافَقَتُهُ للصعود أو للنزول من الباص خلال التَنَقُّل كانت تعني الوصول متأخرّين إلى مختلف المواعيد. لقد تَشَبَّثتُ بهذا الكرسيّ المتحرّك مثل الغريق الذي يتمسّك بقطعةٍ من الخشب في وسط المحيط، بحيثُ أنّه لم يستطِعْ أحدٌ أن يَسْبِقَني لمرافقة خوسيه أنطونيو (كان هذا هو اسم “مُنْقِذي”). عددٌ قليلٌ من الرحلات كان كافيًا. في الليلة الأولى بعد “دوري الجديد هذا”، لم أستطع النوم. كان لديّ فرحٌ بداخلي، لم أختبرْهُ من قبل، ممّا جعل دمي يغلي. بعد فترةٍ وجيزة، فهمت: كان الحبُّ سرَّ هؤلاء الشباب! هؤلاء الناس لم يكن لديهم أيُّ شيءٍ مميّز، كانوا فقط يُحبّون القريب. وهكذا انفتح الكونُ أمامي.
عند عَوْدَتِنا من هذا التَجَمُّع، مع صديقٍ من البلدة نفسِها، وكان هو مَن دعاني للمشاركة باللقاء، طلبنا من سائق الباص أن يَترُكَنا ننزلُ عند تقاطع الطريق السريع على بعد ١٥ كلم من المنزل، في وسط الريف. كانت الشمس قد غابت منذ فترةٍ طويلة، لكنّنا لم نكنْ نريد أن ينتهيَ هذا الاختبار. كنّا حقًّا قد فَقَدْنا عقلنا. ليست بقليلةٍ هذه المسافة في منتصف الليل. في النهاية، بعد بضع ساعات، في منطقةٍ مأهولةٍ بالسكان، وجدنا كشكَ هاتفٍ وطلبتُ من والدي أن يأتي لِيُرافِقَنا. لم أكنْ قطُّ بطلاً!
في اليوم التالي عدتُ للعمل في متجر الجزارة. عندما أرسلني والدي للقيام بإحدى المهمّات المعتادة، للمرّة الأولى، لم أخلعْ مئزَرَ الجزّار الخاصّ بي: كنت أسيرُ في شوارع القرية مع مئزرِ الجزّار الخاصّ بي كما لو كان ثوبَ عيد. صرتُ حرًّا.
ظلَّت الفلسفةُ مهمّةَ في حياتي، لكنْ ليس كما كانت من قبل. فهمتُ أنّ الأفكارَ لن تَمْنَحَني الحرّيّة. هذه الحرّيّة، كنتُ قد وجدتُها في شخص، في شخصٍ ظننتُ أنّني أعرفه ولكنّي لم ألمِسْهُ أبدًا، على الرغم من أنّه كان دائمًا على مَقْرُبَةٍ مِنّي، يدقُّ بأصابعه على باب روحي. هذا الشخص كان يسوع الناصريّ.
فهمتُ أنّه “رَجُلٌ عالميّ”، وأنّنا معه، في وسطنا، يُمكننا حقّا تغيير الأشياء وتغيير أنفُسِنا.
بعد سنواتٍ عديدةٍ من التزامي في أن أتبَعَه، من أنا الآن؟ بطريقةٍ ما، أنا أستمرُّ في أن أكونَ ذلك الصبيّ الساذج والمنطوي قليلاً، الذي يبحث عن الحرّيّة، والحزين ربّما قليلا أيضًا؟ فقط عندما أغفلُ عن المحبّة، لكنّني أعرف أنّني أستطيعُ دائمًا البدءَ من جديد.
هذا ما علّمني إيّاه شباب الفوكولاري. ولهذا السبب أقولُ دائمًا إنّني في الواقع دائمًا وفقط شابٌّ يعيشُ من أجل الوحدة.
خيسوس موران