“حبيبي، أكتب لك رسالةً بحبر خالطَهُ الدمعُ والضحك، وأنا أحمل ردائي الأخير لوضعه في حقيبةٍ ما تَمنيّْتُ يومًا حزمها. أملؤها ببقايا ذكرياتٍ عن وطنٍ كان الأجمل. وطنُ الحبّ والضحك والحياة. أتركُكَ بسعادة طفلٍ يركض بعد انتهاء الدوام المدرسيّ، وبِحُزنِ طفلٍ تركتهُ والدتُه دون مأوى. فأنت يا وطني كالأمّ التي حاولت رعاية أطفالها ثمّ أعياها المرض، فالتفَّ حولها الأبناء لكنّها طردتهم. نعم، أنت يا لبناني طردتنا يومَ باتت الحياةُ فيكَ مستحيلة”.
كلماتٌ خطّتها دموعي قرابة عامٍ مضى. خبَّأتْ بين سطورها الكثيرَ من مشاعر الخوف والغضب والعتاب، وها أنا اليوم أعيد قراءتها وأعتذر. أعتذر عن مسؤوليّةٍ حمَّلتكَ إيّاها. أعتذر عن اللوم والعتاب والغضب. جئتُكَ اليوم ناظرةً بعين حبيبٍ مشتاقٍ يتعذّرُ عليه إلّا رؤية جمال محبوبه. فأنت يا لبناني جنّةُ الله على الأرض وأحلى قصيدة غزلٍ وأجمل قصّة حبّ.
تعلّمتُ في الشهور الماضية قيمةَ الوطن في نفوس أبنائه، تعلّمت أنّ وحدَه من يحمل وطنه في قلبه قادرٌ على حبِّ بلدانٍ أخرى وفهم حضاراتها، وأنّ الإنسان الذي لا يُقدّر عطاءات أرضه مهما كانت متواضعة، لن يتمكَّن يومًا من تقدير عطاءات دُوَلِ الإغتراب مهما بلغت عظمتُها.
في عامي الماضي حملتُكَ فخرًا بين ربوع الدُّنا وأنا أسمع محبّة الشعوب لك. لكم فرحتُ كلّما أخبرني أحدُهم في دُوَل الإغتراب عن تجاربه في لبنان وعن شوقه لزيارته مجدّدًا. لكم دمعت عيناي كلّما تغنّى أحدُهم برائحة ياسَمينِكَ وسحر بحرِك وروح الصبا بين ربوعك.
لقد أحبّوك يا وطني، أحبَّكَ باقي سكّان المعمورة أكثر من أبنائِك أنفسِهم، فكنّا نحن من أعياكَ وعَيينا معك ثمّ ألقَيْنا عاتقَ اللوم على كاحِلِكَ.
جئتُكَ اليوم، وللمرّة الأولى، فاهمةً قولَ جبران “لكم لبنانكُم ولي لبناني”. فأنتَ لبناني الذي أَحبَبْت، لبناني الذي كبرتُ وترعرعتُ بين سهوله وتحت ظلّ الأرز الشامخ في جباله. لبناني الذي شهِدَ نهارُهُ على أوّل قصّة حُبّ، وخبَّأ ليلُهُ دموعَ أوّل فراق، وبين نهاره وليله الكثير الكثير من اللعب والضحك والذكريات التي ترويها لكَ مباني الجمّيزة العتيقة وأشجار الصنوبر وصخرة الروشة.
جئتُكَ اليوم حاملةً غصن زيتونٍ لعلَّكَ تسامحُني على قسوةٍ ما اسْتَحَقَّيْتَها منّا يومًا. أنت يا لبنان في نظري أجملُ بقاع الأرض وإن ضاقت ظروفك.
إسمحْ لي هذه المرّة إن حزمتُ حقائبي أن أتركَ فيك نبضات قلبي وأجزاءَ من روحي، وأن آخذ معي كثيرًا من الذكريات وبضعَ حبوبٍ من الزيتون وحفنةً من ترابك ترافقني أينما ذهبت كي لا أنسى مجددًا أنّي من تُرابك ولتُرابكَ سأعود.
فاطمه مكّه