باب السلام
ألحياة جميلةٌ ولكن قد لا تكون ممتعةً لدى البعض. فالقدرُ أدار ظهرَهُ لهنادي، تلك الفتاة المسكينة التي دمّر الفقر أحلامَها، وأنهكت الحياةُ قواها. منذ صغرها تربَّتْ في بيتٍ متواضعٍ بين أهلها. كان عملُ والدها متواضعٌ لا يكفي ما يَجْنيه كي يؤمِّنَ لها سوى المعيشة الكريمة. لكنّ هنادي كانت تحلم بأشياءٍ كثيرةٍ كبَناتِ جيلها، فكانت ترغب في شراء الثياب والهدايا، وكم أرادت أن تبدُوَ كغيرِها في حلّةٍ جميلة، وتُبدِّلَ الملابس الجديدة كلّ يوم. أمّا الواقع فكان مُغايرًا لذلك، فقد كانت هنادي تتعرّضُ للسخرية من قِبَلِ رفيقاتها، فيضحكون على ثيابها التي لا تتبدَّل، ويُعيِّرونها لِعَدَمِ قدرتها على عيش حياة البذخ التي يعيشونها. سَمِعت الكثير من الإهانات التي جرحت إنسانيَّتَها وجَرَّدتها من الحقّ في الحياة.
كبرت هنادي مع تلك الظروف القاسية وكان عليها أن تتقبَّلَ واقعها كما هو. حاربَتْ في سبيل إقناع المجتمع بأنّ قيمةَ الإنسان تنبعُ من داخله ومن القِيَمِ التي يَحملُها، لكنّها عَجِزتْ عن تغيير مفاهيم المجتمع الخاطئة التي تُقيّم الإنسان بكميّة المال الذي يملكه.
ذات يومٍ حَدَثتْ معها حادثةٌ لن تنساها طيلةَ حياتها، فبينما كانت هنادي تستمع إلى رفيقاتِها وهُنّ تتحدَّثن عن شراء المُقتَنَياتِ الباهظة، قامت إحداهُنّ بإخراج مبلغٍ من المال أمام الجميع وقدّمته لهنادي كي تشتريَ ثيابًا جديدة. شعرت هنادي بانكسارِ روحِها وألمِ قلبِها المحطّم، واحْمَرَّت خجلًا عاجزةً عن اختيار الكلمات المناسبة لذلك الموقف. شكرت رفيقتها بلطفٍ ورفضت أن تَقبَلَ المال، ثمّ انصرفت بهدوءٍ رغم اشتعال داخلِها بنارِ الإهانة من جُرحِها الذي لن يشفى.
وقفت بحزنٍ أمام نافذتها تُلملِمُ ما تبقّى من كرامة، فرأت رجلًا عجوزًا يبحث في القمامة عن شيءٍ يسندُ به جوعَه، فتأمّلت فرحَهُ بكسرة الخبز التي وجدها غير آبهٍ باتّساخِها. أحبّت هنادي أن تساعدَ ذلك الرجُل الفقير بحسب قُدرتِها، فبدأت تُخصّصُ له حصّةً من الطعام كلّ يوم، تُغلِّفُها بعنايةٍ بغلافٍ شفّافٍ وتضعُها في مُستوعَبِ النفايات كي يَجدَها الرجُلُ العجوز. ومرّت الأيام والعجوز يأكلُ ويشبعُ دون أن يَعلَمَ بوجود شخصٍ يُساعده. حين رأت هنادي فرحةَ الرجُل بدأت تشعرُ بالشفاء الداخليّ، وعَلِمَتْ بأنّ الإنسانَ لن يعرفَ السلام ما لم يكن شريكًا في الإنسانيّة ويقدّم ما استطاع لإسْعادِ الآخرين. ربّما الحياةُ قد حَرَمَتها من أمورٍ كثيرة، لكنّها أفضل حالًا من الكثيرين.
كم هو جميلٌ الشعور بالقناعة بما قدّمته الحياةُ لنا، وقبول أنفُسِنا كما هي، وكم هي عظيمةٌ اليدُ البيضاء التي تساعد دون أن تدوسَ على كرامة الإنسان. بابُ السلام لا يَملُكُ مفتاحَهُ سوى أصحاب القلوب الطيّبة.
هلا قسطنطين
Spread the love