ماذا تعني الأخوّة إذًا؟ إنْ لم تكُن تلك العلاقة الأساسيّة التي علينا أن نبنيًها من خلال التزامنا اليوميّ في وقتنا الحاضر وتاريخنا المعاصر؟
الأخوّة توّلِدُ حياةً فتُزهر الحياة في قلب الإنسان مودّةً وطهرًا وفرحًا!
إليكم حادثةٌ تُخبرُنا بها لينا، حول مشروع “التبنّي عن بُعد” الذي وُلد في لبنان عام ١٩٩۳ويحاول مساعدة عائلاتٍ في عَوَزٍ لإستعادة استقلاليّتها، تقول:
“منذ شهرين، تلقّيتُ اتّصالاً من بيتٍ للمسنّين في هولّندا، جاء فيه أنّ سيّدةً عراقيّة، تدعى سارة، تُوُفيّتْ هناك وتركت ظرفًا دُوِّنَ عليه رقمُ هاتفٍ لبنانيّ. كان هذا الرقمُ رقمَ هاتفي. لمّا فُتح الظرف، وَجَدوا وصيّةً جاء فيها: “أترُكُ إرثيَ الوحيد، وقيمته ٦٥ يورو لصاحب هذا الرقم، وهو كلُّ ما أملك، لمساعدة لبنان”. أنا لا أتذكّر سارة، لكنّها أضحت الآن فردًا من مجموعة الناس في الجنّة التي أستدعيها كلّما واجهتني صعوبة. لقد أضحت سارة شفيعةَ جمعيّة “التبنّي عن بعد” في لبنان وراعيتَها”.
تحدّثَ سِفرُ التكوين عن الأخوّة حين تكلّم عن قايين وهابيل. كان قايين المولود البكر ثمّ وُلِدَ هابيل. خلقَ وجودُ هذا الأخ الأصغر انزعاجًا واستياءً عند قايين لأنّ الأفضليّة كانت لهابيل. فقتل قايين أخاه بعد أن فقد سلامَ قلبه. ويقول النصّ كيف أنّ قايين سكن في أرض “نود” بعد أن جعل الربّ له علامةً لكي لا يقتله من وجده، وهناك بنى أوّل مدينة، ودعا اسمها على اسم ابنه حنوك. هي مدينةٌ يعيشُ فيها أشخاصٌ وكأنّهم إخوة، من دون أن يكونَ الدّمُ هو الرابط في ما بينهم. إنّ الأخوّة إذًا هي تلك العلاقة التي تربط بين أشخاصٍ مُتساوين بالكرامة ومُتمايزين بعضهم عن بعض، مدينةٌ يختار فيها كلُّ واحدٍ طريقه ويسير فيه.
الأخوّةُ تُعبّر عن كونِنا أناسٌ يعيشُ واحدُنا إلى جانب آخَرٍ يدعمُهُ ويُشجّعُه. الأخوّةُ تحمي الإنسان الآخَر وتأخذُهُ على عاتقها، فالأخوّة هي قدرةُ الإنسان على تحمّل مسؤوليّة الآخر، وتوسيع القلب لإستقباله. حين أُبدي استعدادًا للمساعدة وأتلفّظُ بكلمة “نعم” للآخَر، هذه ال”نعم” ليست إلاّ تعبيرًا عن قبولي له، “نعمٌ” تسمح ببناء الأخوّة.
وكم كانت المساهماتُ عديدةً في كلّ العصور لإعادة لُحمة الأخوّة ونَسْجِ مبادئها، وكلُّ خطوةٍ سَعَتْ في توطيد الأخوّة أثّرت في تاريخ البشريّة وكانت لها تداعياتها وبصماتها. ونحن اليوم، وعلى صعيدنا الشخصيّ، يُمكنُنا أن نترُكَ بصمتنا، بصمة الأخوّة في مظاهر حياتِنا كافّة.
الأخوّة تبدأ بالأمور الصغيرة وتحملُ أبعادًا تتخطّانا!
تخبرُنا كريمة من الجزائر إذ تقول: “أصبح التلوّث مشكلةً خطيرةً في العالم. فتساءلتُ عن دوري وماذا يُمكنني فِعْلُه. أيقنتُ أنّه يوجد العديد من الأعمال اليوميّة التي، وإن بَدَتْ صغيرة، بإمكانها أن تحميَ البيئة، كتوفير المياه، والضوء، وفرز النفايات، إلخ… كما ولقد بدأت منذ عشرةِ سنواتٍ باستخدام منتجاتٍ تُراعي البيئة، بعضُها أصّنعُها بنفسي، كمساحيق غسل الملابس والأطباق، ومنتجاتِ تنظيف المنزل وصولاً إلى بعض مستحضرات التجميل. هذا ما أقدرُ أن أقدّمَهُ لخير البشريّة، هي نقطةٌ في المحيط لكنّها أساسيّةٌ لبقائنا وبقاء الأجيال القادمة”.
لِنُلقِ نظرةً على العام الذي طُويَتْ صفحاتُهُ للتوّ ولنَسْتَنتِجْ ما هو إيجابيٌّ مع إطلالة هذه السنة الجديدة. فالكارثة التي حلّت على العالم أجمع، جائحة كوفيد التي لم تفرّق بين إنسانٍ وآخر، مُخيِّمَةً بشبَحِها المُخيف على كلّ البشر، جعلت الكوكب يُصلّي مُتّحدًا وجعلت الأيادي تُصفّقُ للأطبّاء والمُمَرّضين وعمّال النظافة وكلِّ من خاطر بحياته من أجل أخيه الإنسان، وصارت حملاتُ التطوّع تتزايد فَبِتْنا نرى أناسًا في الخطوط الأماميّة يساعدون من فقد غاليًا أو من تدهورت حالتُهُ الإقتصاديّة…
أودُّ أن أخبرَكم عنه: إنّه صيدليّ، وهو رجُلٌ مِصريٌّ طيّبٌ وبشوش، عُرِفَ بمساعدته للفقراء. كان يُعطيهم الدواء ويَصْبُرُ عليهم ليدفعوا ثمنه. عندما حَلّت مصيبة “كورونا” وقفَ إلى جانب الناس، بخاصّةٍ المرضى المُصابين بالوباء حتّى أُصيبَ بدوره بالعدوى وتُوفّيَ. وبما أنّ جيرانَهُ المسلمين والمسيحيّين لا يعرفون أيْن يسكن، راحوا يجتمعون يُعزّون أنفُسَهُم وبعضهم البعض أمام باب الصيدليّة. تأثّر الجميع بمحبّته الكبيرة وحاولوا أن يُعبّروا عن مذاق المحبّة التي تركها داخل كلٍّ منهم. نعاهُ جيرانُهُ المسلمون والمسيحيّون وأقاموا له مجلسَ عزاء. إنّ المحبّةَ الصافية النابعة من القلب والمستعدّة أن تُقدّمَ ذاتها في سبيل الآخر هي فعلاً محبّةٌ تَلقى المئة ضعف على هذه الأرض وفي السماء.
لا ندع الوقت يضيعُ منّا سدًى ولنسعَ إلى بناء السلام والعيش الطيّب ونشر ثقافة التسامح!
لتكن شهادتُنا شهادةَ أخوّةٍ واحتفالُنا عظيمًا!
جاء بيانُ الأونيسكو الصادر عن الأمم المتّحدة ليُحدّدَ يومَ ٤ فبراير ويعلنه يومًا عالميًّا للأخوّة الإنسانيّة.
تُفسّرُ الجمعيّةُ العامّة إعلانَ “اليوم العالميّ للأخوّة الإنسانيّة” كعملٍ عالميٍّ قائمٍ على الوحدة والتضامن وتجديد التعاون المُتعدِّد الأوجُه بين كلّ البشر. وتقول الجمعيّة إنّها تدركُ بأنّ التسامحَ والتعدديّة والإحترام المتبادل وحريّةَ تنوّع الأديان والمعتقدات تسمحُ للأخوّة الإنسانيّة بالإزدهار.
ويأتي القرار تخليدًا لذكرى توقيع “وثيقة الأخوّة الإنسانية” في ٤ فبراير العام ٢٠١٩، بين فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وقداسة البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، على وثيقة “الأخوّة الإنسانيّة والسلام العالميّ والعيش المشترَك” في أبو ظبي في دولة الإمارات العربيّة. تلك الوثيقة تُمثّلُ حدثًا إنسانيًّا وتاريخيًّا عميق المغزى، وتحمِلُ رسالةَ سلامٍ ومحبّةٍ وإخاءٍ إلى العالم بأسره، وتحثُّ الشعوب كافّة على التحلّي بالقِيَم الإنسانيّة ونَبْذِ التعصّب والكراهية.
وأعربت الأمم المتّحدة بحسب البيان الصادر عنها، عن تشجيعها للأنشطة الرامية إلى تعزيز الحوار بين الأديان والثقافات من أجل تعزيز السلام والإستقرار الإجتماعيّ واحترام التنوُّع وعيش الإحترام المتبادل، وخَلْقِ بيئةٍ مؤاتيةٍ لتحقيق السلام والتفاهم المتبادل بين البشر، على الصعيد العالميّ كما الإقليميّ والوطنيّ والمحليّ.
بالفعل وكما نعلم، إنطلقت وثيقة الأخوّة الإنسانيّة من أرض الإمارات العربيّة المتّحدة إلى العالم أجمع بهدف تعزيز قيم العدل والأخوّة الإنسانيّة والعيش المشترك ومواجهة أشكال العنصريّة والتعصّب والكراهية والإرهاب كافّة، من أجل تحقيق خير البشريّة جمعاء، من خلال التعاون المشترَك بين الأزهر الشريف والكنيسة الكاثوليكيّة. فقد أتت مبادئ الوثيقة لتخاطبَ الإنسان بالدرجة الأولى، ولِتُمثّلَ القيم والمبادئ العليا التي يُمكن لها أن تُحقّقَ التعايش والسلام من خلال العمل على إيصالها إلى صُنّاع القرار العالميّ والقيادات المؤثّرة في العالم، وترجمتها إلى سياساتٍ وقراراتٍ ونصوصٍ تشريعيّةٍ ومناهجَ تعليميّةٍ وموادٍ إعلاميّة.
كيف لا يُحفرُ هذا اليوم في بالنا وبال من يأتي بعدنا، وكيف لا نؤكّد مع كلٍّ من قداسة البابا فرنسيس وفضيلة إمام الأزهر الشيخ أحمد الطيّب،على مدى أهميّة دور هذه الوثيقة في التاريخ الحديث، هذه الوثيقة التي تدعونا في حياتنا اليوميّة، إلى التمسّك بقِيَم السلام ولأجل أن يُصبحَ عالمُنا أكثرَ وحدةً وتضامنًا وإخاءً.
هذا هو احتفالُنا الذي يريد في هذا التاريخ من كلّ سنة أن يُعلنَ أو يُبرِزَ ما جرى خلال العام الماضي من حوارٍ بين المؤمنين ومن تلاقٍ في مساحات القيم والفضائل ومن سعيٍ لبناء روابطَ أخوّةٍ مُحبَّبَةٍ إلى قلب الله، كي تُنعمَ السماءُ بوفرةِ بركاتها على الأرض، وتنظرَ نظرة رضى على أبناءٍ متنوّعين ولكن، متّحدين.
ريما السيقلي