يعتقدُ البعض أنّنا عندما نتطرّق إلى موضوعٍ كهذا، فنحن نقتربُ من دائرةٍ شديدة الخطورة والحساسيّة لأنّ المسألة تمسُّ أمنَ البلاد، في حين، أنّ تجاهُلَ هذا الموضوع هو الذي يمسُّ أمنَ بلادي وسلامتها… ما يهمُّ هو كيف نتناول هذا الموضوع وما هي دوافِعُنا، ومع مَن نتحدّث ومَن نُخاطب، وهل توجدُ مشكلةٌ أو مشاكلُ نبحث لها عن حلول، أم نكتفي بالمُسكِّنات وتَعانُق الطرَفَيْن على شاشات التلفزيون، واستعمال مَعسولِ الكلام الذي نُجيدُهُ إلى درجة الإتقان.
ما مفهوم مصطلح الوحدة الوطنية؟
معناه بكلّ بساطة، أن يعيشَ مواطنون معًا في سلامٍ وحرّيةٍ بكلّ اختلافاتهم، في وطنٍ واحد، من دون تفرقة، يعيشون مُتساوين في الحقوق والواجبات، على أن يكون انْتِماؤُهُم الأوّل هو الوطن والعمل معًا على رفعة شأنه، كلٌّ من مَوْقِعه. إذًا، من خلال محاولة التعريف بمعنى الوحدة الوطنيّة، نجدُ أنفُسَنا مدعوّيين للوقوف أمام موضوعاتٍ أكثر عمقًا، تُعتبَرُ الجذور والركائز التي تُبنى عليها المجتمعات، ومن دونها لا تستطيع هذه المجتمعات أن تتقدَّمَ أو تنمو. في التطرُّق إلى مفاهيم الإنتماء والمواطنة، وكيفيَّة مُمارسة الحرّية ودور الإعلام والأسرة والمدرسة والجامعات ودور العبادة، قبل التغنّي بالـ”وحدة”، لا بُدَّ أوّلاً من العمل على تحقيق مناخٍ سويّ وصِحيّ لكي تَنْبُتَ بذورُ الوحدة والتآخي، وهذا لن يحدُثَ بين ليلةٍ وضُحاها، ولا بندوةٍ من هنا وأخرى من هناك يستعرضُ فيها المُذيعُ وضيوفُه ثقافَتَهم ومواهِبَهم، ولا بمقالاتٍ وخُطَبٍ وحَسْب.
لا بُدَّ أوّلاً من أن نعترفَ جميعًا أنّ هناك مشكلة… أنّ هناك مرضًا تظهر أعراضُهُ من حينٍ إلى آخر… ولا بدَّ من تشخيص المرض والبحث عن الفيروس أو الميكروب الكامِن في جسد الوطن الحبيب، ثمّ نبدأ في البحث عن طُرُق العلاج.
لربّما إصلاحُ ما فَسد يتطلّب:
أوّلاً، أن نبدأ بإصلاح المنظومة التعليميّة والتي تُعَدُّ البنيةُ الأولى في حياة الشعوب لتشمَلَ المناهجَ الدراسيّة التي يجبُ أن ترسَخَ معاني قبول الآخَر. نريد إعدادَ معلّمين يؤمنون أنّ عَمَلَهم رسالةٌ مقدّسة، وإلاّ غابت القدوة لدى الأطفال… وماذا ننتظرُ بعد ذلك من أجيالٍ تتساقطُ أمام عيونهم القدوةُ في جميع مراحل حياتهم. إنّ الإصلاحَ ضروريٌّ بل مِحْوَريٌّ لكي ينشَأَ الطفلُ في مناخٍ صحيحٍ ويتعلَّمَ بالفِعْل. كما لا بُدَّ من الإهتمام بالأنشطة المدرسيّة التي يجبُ ألاّ تقتصِرَ جوائزُها على التفوُّقِ الدراسيّ وحسب، بل على التفوُّق الرياضيّ والثقافيّ، والعمل على تنمية المهارات وإكتشاف المواهب الكثيرة والدفينة في هؤلاء الأطفال، مستقبل الوطن.
إنّ غرسَ التعصُّب الأعمى أو محاولة نَبْذِه يبدأ من الطفولة… هذا هو واقعُنا وقَدَرُنا وغِنانا والتحدّي الكبير الذي نعيشُهُ كلَّ يوم: وهو أنّ هذا الوطن يجمعُ على أرضه المُسلم والمسيحيّ بل إنّ هذا هو ما يُميّزُنا.
ثانيًا، لا يقلُّ دورُ الإعلام أهميّةً عن دور التعليم، عليه ألاّ ينسى يومًا أو يتناسى أنّه يخاطبُ نسيجًا إجتماعيًّا مختلَطًا ومُتشابِكًا من أديانٍ ومذاهِبَ مختلفة، وجمهورًا متفاوت التعليم والثقافات… فيسعى إلى تعميق انتماء مَن يُخاطبهم لوطنهم، لا بالأغنيات الحماسيّة بل باحْترامِ عقولهم ومُعتقداتهم. يكفي ما نستقبلُهُ على الفضائيّات من برامِجَ من هنا وهناك، تتسابقُ على التحقير والإستخفاف بمُعتقدات الآخرين في تسابُقٍ غير شريف… إنّ للإعلام دورًا في منتهى الحساسيّة، إذ يجبُ أن يتحلّى بالعدل والشفافيّة، وسوف أعطي مثالاً لِما أصْبَحْنا وأَمْسَيْنا عليه، إذ نقرأ ونُشاهدُ ونسمعُ كلَّ يومٍ ما يحضُّ على كراهية الغرب مثلاً، وأنّ كلَّ ما يأتي منه مكروهٌ ومرذولٌ ومرفوض، وإنّ كلَّ القِيَمِ الرفيعة والسامية هي ملكيّةٌ خاصّةٌ بنا وحكرٌ علينا، وهذا غيرُ صحيح.
إنّ التلفزيون صديقٌ دائمٌ لكلّ بيت، فلنُدَقِّقْ جيّدًا في نوعيّة الوجبات التي نُقدّمُها بخاصّةٍ لشبابنا قبل أن يتحوّلوا إلى قنابِلَ موقوتة، وقبل أن نُلقِيَ عليهم اللومَ وهم في الواقع ضحايا. ولو راجَعْنا مثلاً المادّة التي تُقدَّمُ في بعض المسلسلات التلفزيونيّة وبعض البرامج، لسوف نجدُها مثل السُمّ الذي يُدَسُّ في العسل ثمّ نعودُ لنصرُخَ بعد ذلك ونَصِف من فَعَلَ ذلك بأنّهم قلّةٌ طائشة من شبابنا ولديهم مفاهيمُ مغلوطة.
ثالثا، الخطاب الدينيّ. أعتقد أنّ الدولة قد بدأت بالفعل تُدركُ هذا الأمر الخطير لتُلاقِيَ تَسْييسَ الدّين أو تديين السياسة. ولعلَّ اليوم من يذهبُ إلى الكنيسة أو المسجد إنّما من أجل العبادة فقط لله الواحد، ومن أجل التوبة والمُصالحة مع النفس والأخرين. إنّ للخطاب الدينيّ تأثيرًا قويًّا على نفوس المؤمنين، فإمّا أن يعمّقَ علاقات الأخوّة بين البشر ومفاهيمها ويدعو للإنتماء للوطن الواحد الذي نعيش فيه ويعيش فينا، أو إنّه يُشتّتُ أبناء الوطن الواحد ويدمّرُهم. ولعلّي أتساءلُ في هذه الألفيّة: هل نحن مصريّون مَسيحيّون ومُسلمون؟ أم مسيحيّون ومسلمون مصريّون؟
رابعاً : أناشد السادة الحكّام والمسؤولين في بلدنا الحبيب أن يصدروا يومًا ما قرارًا جريئًا بحذْفِ خانة الديانة عن بطاقة الهويّة المصريّة، وذلك أسوةً بما هو مُتّبعٌ في الكثير من بلدان العالم؛ فكلُّنا مواطنون، ولنَتْرُك الدّين لله والوطن للجميع. كما أحلمُ ببناء صرحٍ كبيرٍ للأديان على أعلى مستوى معماريّ، يكونُ كصرحٍ حضاريٍّ ورمزٍ ماديٍّ ملموسٍ للتآخي وقبول عقيدة الآخَر بكلّ احترام. وهذا الصرحُ الضخم يدعو لبنائِهِ الإعلام المصريّ بكلّ ما لديه من إمكانيّاتٍ ووسائِلَ دعائيّة، بحيث تجمَعُ التبرّعات على حسابٍ مصرفيٍّ واحد، يساهم فيه شعبُنا بكل فئاته من رجال أعمالٍ وفنّانين ومثقّفين وأبناء الجاليات المصريّة بالخارج، ويعرف كلُّ من يساهم في بنائه أنّه يدفعُ من مالِهِ لشراء حجرٍ للمسجد وآخَر للكنيسة على حدٍّ سواء، وتُشرِفُ على بنائه وزارة الإسكان والتعمير. ونحتفلُ كلَّ عامٍ بيوم الوحدة الوطنيّة، يوم افْتِتاح هذا الصرح، لا لنكتفِيَ فيه بترداد الشعارات، بل بأن نبتكِرَ كلَّ عامٍ مبادراتٍ تُغذّي هذه الوحدة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لما لا نُعِدُّ صلاةً ودُعاءً تردّدُهُ جموعُ المُصلّين من الدّيانَتَيْن، ندعو فيه الله الواحد خالق الكون أن يحفظَ بلادَنا ويَقيها شرَّ الفِتَن ويُنيرَ ضمائِرَنا…
يُمكنُ أن تقومَ بهذه المبادرات لجانُ الحوار ما بين الأديان والإخاء الدينيّ وغيرها، لتقومَ بمشاريعها من أجل وطنٍ مستقرٍّ في بُنْيانِهِ الداخليّ، حيث يتحمّلُ كلٌّ مِنّا بأمانةٍ ومسؤوليّةٍ دَوْرَهُ كراعٍ مسؤولٍ عن رعيّتِه، فيتحوَّل حلمُ الوحدة الوطنيّة، الحقيقة المنشودة، إلى واقعٍ مُعاش.
جوزيف يعقوب