كيارا لوبيك (١۹٢٠ – ٢٠٠٨) هي مؤسِّسة حركة الفوكولاري، وأوّل رئيسةٍ لها، وكاتبةٌ غزيرة الإنتاج. نتوقّف في هذا الجزء الأوّل مع بعض المحطّات المهمّة من حياتها للفترة الممتدّة ما بين سنة ١۹٢٠ حتّى سنة ١۹٣٧.
في ديسمبر ۱۹٤٨ وصلت كيارا لوبيك إلى روما مع ثلاثة من رفيقاتها
سيّدةٌ من المجتمع الراقي تُدعى “إيلينا هويله”، وزوجها، عرضا عليها شقّةً لتعيشَ فيها. بعد فترةٍ وجيزة، في ٢٠ يناير ۱۹٤۹، إلتقت كيارا بمجموعةٍ من البرلمانيّين في مونتيسيتوريو ووضعت برنامجًا لهم، يهدف إلى أن “يُجعل يسوع حيًّا في البرلمان وهذا يعني أن يكون كلّ واحدٍ قدّيسًا، مسؤولاً عن نفسه كما عن قريبه”. إنّ النار التي أرادت إشعالها في المدينة لا تهدف إلى إحياء الأديرة والرعايا وحسب، بل تطال المجتمع بأسره، بكلّ مكوّناته، بدءًا بالمجال السياسيّ. بخاصّة أنّ روما كانت، في تلك الأثناء، في حال اضطرابٍ تامّ، تسعى للنهوض من الدمار الماديّ والمعنويّ الذي خلّفته الحرب.
وفي الوقت ذاته، كان العالم الكنسيّ يحاول أن يعيد النضارة إلى الحياة المسيحيّة. في تلك الفترة، لم يكن الفوكولاري يضمّ سوى ١۹ فوكولارينا و ٤ فوكولاريني. يُعتبرون مجموعة صغيرة، لكنّ شغفهم جعل منهم يعملون وكأنّهم جيش. وليس من قبيل الصدفة أن يُطلقَ عليهم لقبُ “مشعلو الحرائق”.
بعد بضعة أشهر، إلتفّت حولهم جماعة متنوّعة الدعوات، تضمّ أكثر من ٣٥٠٠ شخص، منهم ٣٠٠ شخص في روما وحدها. وكان الرهبان، ومنهم الأب رافائيل ماسيمي، رئيس الرهبنة الفرنسيسكانيّة الثالثة، يفتحون أمام أفراد الحركة، أبواب جماعاتهم في جميع أنحاء لاتسيو، وكذلك في سردينيا، في ساسّاري، حيث التقت بهم كيارا لاحقًا في الربيع.
غير أنّ زخم انتشار هذه الحياة، سيتوقّف فجأة: لقد تمّ تشخيص إصابة كيارا بمرض السلّ. طلب منها طبيبُها العودة إلى مسقط رأسها والتوجّه إلى مصحّ ميسيانو، القريب من ترنتو. هناك أُجريَ لها فحصٌ شامل، أظهر أنّها سليمةٌ تمامًا!
تقول كيارا: “كان هذا الوجه ليسوع المتروك وكأنّه”شبح”، ثمّ تابعت على الفور “ولكن ما تبقّى من ذلك أنّنا أحببناه”. وهذا الحدث أعطى كيارا إشارةً جديدة: من الجدير الإستفادة من الصيف واتّخاذ قسطٍ من الراحة. ولقد بعثت برسالةٍ إلى جماعة روما، مؤرّخة في يونيو ۱۹٤۹، تسلّم عليها وتقول: «على الرغم من المسافة بيننا، فمِنّا مَن قصدَ الجبل ومنّا البحر، إلا أنّ النور سيربطنا، هو نورٌ لا تدركه الحواس ولا يعرفه العالم، ولكنّه عزيزٌ أكثر من أيّ شيءٍ آخَر على قلب الله وعلى الوحدة التي تربطنا من خلاله، إنّه كلمة الحياة. لا يمكننا أن نكون واحدًا إلّا إذا كان كلٌّ منّا يسوع، كلٌّ منّا كلمة من كلمات الله الحيّ”.
وها هي كيارا تجد نفسها مرّةً أخرى في ترنتو بلدتها، تمضي صيفيّتها في كوخٍ يشبه الحظيرة، في توناديكو، وهي قريةٌ صغيرةٌ في الدولوميت، عند فوكولارينا، اسمها “ليا برونيت”.
أثناء مغادرتها المكان في أواخر الصيف، فوجئت بملصق فيلمٍ عنوانه “في الجبل سوف أختطفك”. نعم، هذا ما حدث معها تمامًا: خلال عطلتها، اختطفتها محبة الله في تجربة من حياة ونور، جعلتها تفهم حقائق السماء بطريقة جديدة، وستسمّي هذا الاختبار “جنّة ٤۹”. مع اقتراب نهاية صيف عام ۱۹٤۹ سوف يصبح نداء الإنسانية المتألّمة أشد قوّة، فتصلّي كيارا في الأوّل من سبتمبر قائلة: “أعطني يا ربّ، كل الوحيدين. ها أنا أشعر في قلبي بالشغف الذي يجتاح قلبك، بسبب كلّ الترك الذي يسبح فيه العالم أجمع”.
عادت إلى روما، وعادت تواجه المشاكل نفسها من نقص في السكن وبطالة وتوافد المهاجرين الجدد والتدهور الماديّ والمعنويّ، فتكتب: “عندما أنظر إلى حال روما كما هو الآن، أشعر أنّ مثالي بعيدٌ جدًّا”. ومع ذلك، تتغلّب الرؤية النابعة من النور الساطع الذي اختبرته في الجبل خلال فصل الصيف على ما كانت تشاهده على أرض الواقع، فتؤمن أنّ “قيامة” روما، والبشريّة جمعاء، ممكنة، لأنّها مغمورةٌ بنار حُبّ الله. وكأنّ ذلك النور نزل من الجبل مع كيارا ليُنيرَ ظلمة العالم.
ومن علامات هذا النور كان اجتماعها بالسيّد دي غاسبيري، رئيس الحكومة آنذاك. إلتقت به في فريجيني، خلال فترة راحة بعد ظهر يوم الأحد، وقد كان منزعجًا من تأخّر المساعدات الأمريكيّة. أدهشته كلماتُها واستعادَ أمله، وكتب لها لاحقًا: «إنّ الشعور أنّنا واحدٌ تظلّلنا أجنحةُ الأبوّة الإلهيّة، يوفّر إحساسًا بالصفاء والثقة، حتّى في ساعة الضيق والإضطراب مثل هذه”.
في هذه الأثناء انضم إليها رفاق سفر جدد: الأب جيوفاني باتيستا توماسي (١٨٦٦-١۹٥٤)، وهو كاهن متقدّم في السن وحكيم، رافقها عن كثب في السنوات التي شهدت ولادة هذه الحركة الجديدة في الكنيسة، وباسكال فوريزي (۱۹٢۹-٢٠١٥)، وهو شابٌّ توسكانيّ، سوف يصبح كاهنًا فيما بعد. تسأله كيارا عما إذا كان يودّ مشاركتها في عيش تلك المغامرة الإلهيّة الجديدة. سيلبّي الدعوة وسيرافقها إلى أن وصلت ب”عمل مريم” إلى مرحلة النضج الكامل.
ليس لدي سوى يسوع المتروك
عزيزي الأب فيستا،
إبتعدتَ وغبتَ بالجسد عنّا. نحن ننتظرك على أحرٍّ من الجمر ونفتقد وجودَكَ معنا. ولكن، فلنبدأ في استغلال وقت الانتظار هذا في محبّة إلهنا. إنّ الانتظار والشوق هما يسوع المتروك.
إنّ الشعور بالتواجد في مكانٍ ليس حقًّا بمكاننا هو يسوع المتروك: هو إله الكون، الواحد، أُخرِجَ من السماء ومن الأرض. هذا ما حدث معك أبتِ العزيز فيستا.
ولكن، من الجميل أن نكون قادرين على تقديم أفضلَ ما نُحبّ لله. في يسوع المتروك، نلتقي أيضًا كلّ النفوس التي تخلّت عن دعوتها. هو أيضًا كان مدعوًّا ليكونَ واحدًا مع الآب! ومَن أكثرَ منه متّحدٌ بالآب؟ ومع ذلك، أُجبرَ من أجلنا أن يصرخَ صرخة الألم هذه: “إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟”. أبتِ، أنت مثله. ولكن ها هي “كلمة الحياة” لشهر أبريل:”لن أترككم يتامى، بل سأعود إليكم» (يوحنا ۱٤-١٨). يسوع بيننا سيعود إليك. نحن بانتظاره. في هذه الأثناء، دعونا نُبقي مصابيح العريس مضاءة في ليل التخلّي: حتّى لا يأتي العريس في وقتٍ لا نتوقّعه.
لنحبّ فقط “يسوع المتروك”, لم يبق لي شيء يا أبتِ، أؤكّد لك ذلك. لا الفوكولاري ولا الحركة ولا الوحدة ولا ما كان لي قبل أن أهبَ نفسي له. لي فقط “يسوع المتروك” هو الذي يرافقني دومًا. هو حيث ينقص كلّ شيء، هو في الظلام، وفي العزلة، وفي البرد، هو حيث لا أحد يريد أن يكون. ونحن معه لنستمدَّ منه النور الذي يفيض على العالم سيلاً غزيرًا من النِعَم.
أبتِ، لقد أدركتُ بوضوح أنّنا لن نصبح قدّيسين إلّا إذا عشنا على أكما وجه مثالنا. وهذا ما فعله جميع القدّيسين.
لذلك أتركُكَ معه. إذا كان بإمكانك أن تأتيَ إلى ترنتو، لا تتردّد في الكتابة إلينا هناك لا توجد ضغوطات.
باركنا جميعًا، وفي يوم الجمعة العظيمة مُتْ معه ومُتْ معنا.سوف يولد سبت النور من جديدٍ وإلى الأبد.
رسالة من كيارا لوبيك إلى الأب جيوفاني فيستا ، أوستيا ٣١ مارس ١۹٥٠
المدينة الجديدة