القيمة العلاجيّة للعطاء
سؤال وجواب خلال مقابلة مع أنريكو موليناري أخصّائيّ في العلاج النفسيّ
• نقرأ في المجلاّت عن اكتشافاتٍ حديثةٍ لبعض الأدوية أو العمليّات الجراحيّة التي تَعِدُنا بالصحّة الدائمة والسعادة. وكأنّ أسهُمَ علم النفس على انخفاضٍ في وجه منافسة الأدوية التي تبدو أكثر فعاليّة…
 لا تزال الحاجةُ كبيرةً لعلماء النفس. فالضغوطات والإضطرابات النفسيّة تتزايد كما تتزايد الصعوبات على المستوى الشخصيّ والإجتماعيّ. إنّ علمَ الأعصاب يصفُ الظاهرةَ العصبيّة عند الشخص المتألّم نفسيًّا، لكنّها لا تُفسّر أسبابها، علمُ النفس يساعدُ على تفسير عمل الفكر وفَهْمِهِ وعمليّة الإنتقال من المستوى الفيزيولوجيّ إلى المستوى النفسيّ. كما يستطيع علمُ النفس أن يقترحَ على المريض وجهة نظرٍ جديدة، لأنّه غالبًا ما يُعيدُ الخطأ نفسه طوال حياته. ففي العلاقة العلاجيّة بين عالِم النفس والمريض يصلُ هذا الأخير إلى حلولٍ أخرى لمشكلته، والإصغاء الذي يقدّمُهُ عالِمُ النفس مهمٌّ جدًّا، فالمشاركةُ بالألم أو المرض أو الضغط النفسيّ يُخفّفُ من وطأته ويسمحُ باكتشاف إمكانيّاتٍ جديدةٍ للتعامل مع الأمور.

• لماذا تتزايدُ الضغوطاتُ النفسيّة في مجتمعنا اليوم؟
 الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يدرك مَحدودِيَّتَهُ وهذا، على الأرجح، مصدرُ الكثير من الإضطرابات. فَعَدَمُ القبول بمحدوديّتنا يُمكنُ أن يؤدّيَ إلى اضطراباتٍ نفسيّةٍ مؤلمة. لقد بحث البشر منذ القِدَم عن الجواب على هذه المشكلة، تُرانا نحن البشر لا نحقّق ذواتنا لا داخل العائلة ولا خارجها؟ فعلاوةً على ميراثنا البيولوجيّ نحملُ ميراثَنا النفسيّ ـ البيئيّ الذي يؤثّرُ بقوّةٍ على طريقة تعامُلِنا مع الحياة حاملاً معه ثروةً كبيرة، ولكن أيضًا محدوديّات.

• ما الحلّ إذًا؟
 تبقى المشكلة دائمًا ذاتها: تَعَبُ العيش في العالم، مع الآخرين. نحن نتواصل عبر الكلام ويكون هذا سببًا للكثير من عدم التفاهم، لأنّنا نختلف عن بعضنا. الحياةُ النفسيّة كلُّها تكمن هنا؛ تكمن في العلاقات مع الآخرين، لا في الخيرات التي نَمْلكُها. ولكن، أن تقومَ العلاقات على أساس الإحترام المتبادل شيءٌ يُسْهُلُ قَوْلُهُ ولكن يَصْعُبُ فِعْلُه. لماذا ينفصلُ عددٌ كبيرٌ من الأزواج؟ لأنّ الحياة الزوجيّة هي رهانٌ كبير: نتزوّجُ من شخصٍ له قصّتُهُ ولنا قصّتُنا، له مفهومُهُ الخاصّ للحياة. نتشارك تربية الأولاد، الأكلَ والمَسْكَن، هذا ولم نَذْكُرْ بعد كَوْنَنا رجلٌ وامرأة. أن نضعَ معًا هكذا عالَمَيْن بعيدَيْن عن بعضهما ليس بأمرٍ سهل: في البدءِ نقعُ بِحُبِّ بعضنا، ثمّ مع الوقت يظهرُ الإختلاف، وهنا يجبُ أن يكونَ لنا الشجاعة لِخَلْقِ علاقةٍ جديدة، لا بل لإعادةِ خَلْقِها. هكذا أيضًا بالنسبة إلى أولادنا، يجبُ أن نخلقَ على الدوام التقدير والتقبُّل المُتبادَل كي ينموا ويختبروا طفولةً ومراهقةً تختلفُ عن طفولتنا ومراهقتنا، ويكتسبوا نُضْجًا خاصًّا بهم، وربّما نمطَ حياةٍ عائليّةٍ مختلفًا.

• ما هي الإضطرابات الأكثر شُيوعًا اليوم؟
 الآلام النفسيّة تُعبّرُ عن ذاتها بأشكالٍ مختلفة حسب كلّ عصر. نجدُ اليوم، وبشكلٍ خاصّ، أربعة أنواعٍ من الإضطرابات، وهي الغذائيّة والقهريّة والنرجسيّة والكآبة. في الماضي، كان الإنسانُ يعبدُ بعضَ الآلهة، أمّا الآن فهو يعبد ذاتَهُ قبل كلّ شيء، يكفي أن نلاحِظَ هاجِسَ الإهتمام بالجسد الذي يبلغُ حَدَّ الهَوَس. ولكن، في العمق، تكمُنُ المشكلة في أنّ كلَّ واحدٍ يتألّمُ وحده. لذلك ما يختبىءُ وراء كلّ خسارةٍ أو زيادةٍ مفرطة في الوزن، أو وراء نوبَةِ هَلَع، ليس إلاّ صرخةً دراماتيكيّة، تطلب أن نكونَ مهمّين ومُعْتَبَرين في نظر أحدهم.

• هل معنى حياتنا متعلّق بالآخرين؟
 كي نعيشَ حياةَ تُرضينا، نحتاجُ أن نحقّقَ ذاتنا، ولكن أيضًا أن “ننتمي”، أي أن نعيشَ مع الآخر. لا نُحقّقُ ذاتنا ضدَّ الآخر ولا من دون الآخر. لا يمكن أبدًا أن نكون سعداء لِوَحْدِنا. التعاونُ واختبارُ العطاء، لا سيّما عطاء الذات، يُفيدُ صِحَّتَنا النفسيّة ويُطوّرُها. ولكن، للأسف، يرتكز مجتمعُ اليوم على قواعد المنافسة الإقتصاديّة أكثر منه على قواعد الحياة البيولوجيّة التي تجمع بَدَلَ أن تَضيعَ في المنافسة.
يبرهنُ تاريخُ البشريّة أنّ البشرَ الذين تخطّوا الأزمات وتطوّروا هم الذين عرفوا أن يُعبّروا عن مشاعرهم ويقرأوا مشاعِرَ الآخرين، وعرفوا كيف يتواصلون مع بعضهم لِيُواجهوا التحدّيات التي فَرَضَتْها ظروفُ حياتهم.
• نحن بحاجةٍ إذًا أن نُعطى ونُعطي ذواتنا لنكونَ بصحّةٍ نفسيّةٍ جيّدة؟
 نعم. عندما ينجحُ العلاجُ النفسيّ، يصبحُ الشخصُ قادرًا على مواجهة العالم وعلى تقديم مساهمته ومساعدته للشخص الآخر. العلاجُ الحقيقيّ هو القدرة على العطاء وعلى عَيْشِ تبادليّة العطاء. لقد افتقرَتْ العلاقاتُ الإنسانيّة اليوم. الجميع يشكون من قلّة الوقت، كي يخلقوا هذه العلاقات ويعيشوها، في حين أنّ الوقتَ هو أكبرُ هديّةٍ يُمكنُ أن نُقدّمَها، فَلْنُكَرّسْ مثلاً وقتًا للإصغاء إلى الأشخاص. كلّنا نستطيع أن نصغي. فالوقتُ هو أثمنُ ما نملك، ونقدرُ أن نُقدّمَهُ!

المدينة الجديدة

Spread the love